رواية "سنوات الجري في المكان".. تعتيم الإضاءة خلال السرد

رواية "سنوات الجري في المكان".. تعتيم الإضاءة خلال السرد

تنطلق أحداث رواية "سنوات الجري في المكان"، للكاتبة المصرية نورا ناجي، دار الشروق 2023، من منطقة زمنية موحشة، تسبق ثورة يناير المصرية 2011، إذ تمرر الكاتبة المصرية نورا ناجي، شكل البؤس الذي حمله الإنسان المصري وقتها، عبر تقديم صوت الداخل خلال السرد، مظهرة عمق ألم وحسرة المرء، بما عكسته من خيبات تتراكم داخل الجسد والنفس.

كل شيء في الواقع، كان يقدم صفة الخذلان عن الصفات الأخرى لعائلة سعد، الذي نشأ، فوجد الحسرة في منتصف الطريق، ولم يجد أباه رفيقًا للحظات التي كان يأمل بها.

فالأب يغرق بحادثة السفينة في ميناء سفاجا المصرية، ويترك للأم حملًا ثقيلًا، لا تستطيع حمله والسير به داخل حياة موحشة، إلا بالكاد، كما يترك ابنه سعد، بحواس دائمة الحزن، بسبب فراقه، ومنع الابن وقت الحادثة من وداعه.

إنها مقدمة تشبه التريلر المحفز للتوتر والحزن، لدراما تلامس الحواس والمشاعر، أكثر مما تلامس العقل، تتدرج على شكل طابات محترقة، تمرُّ على الجلد بالتتابع، من خلال السرد المختلف في الصيغة والتركيب والتسلسل والتكنيك، داخل الرواية.

زوايا

إن الأحداث المؤلمة في مجملها داخل السردية، تتمحور حول الأصوات الإنسانية المختلفة، والدوافع التي يلامس من خلالها الإنسان يد العالم، فمن خلال زوايا مختلفة، يتم تصوير المشاهد، وحياكة السرد المرهق شعوريًا، وكأن الكاتبة امتلكت سبع عيون/ كاميرات، تدور بها خلال مكان ممتلئ بالتفاصيل، موثقة الأصوات والحركات والأنفاس والجري والسكون، الشهقات والآهات، وصراخ صراخ، لا يتوقف من أعماق الشخصيات.

متاهة

إن محاولة البحث عن بطولة لإحدى الشخصيات خلال السرد تشبه لعبة المتاهة، فمع تسلسل الأحداث يمكن اكتشاف أن (سعد، مصطفى، نانا، ياسمين، يحيى) كانوا جميعًا أبطالًا، وأن الحيلة السردية، كانت تعمل مثل شبكة من الخيوط تمتد بين الأيدي والحواس، في لعبة تعارف.

مايكات

لم تحرم نورا ناجي شخصياتها من الجري، والتجريب مع الحياة، فقد منحت لكل منها، صوته الخاص، عبر طريقة السرد البوليفوني، إذ تحمل كل شخصية مايك الراوي، وتأخذ مساحتها الكافية، لاتهام الآخرين، ولعن الحياة، والسخرية منها، لكن هذه الشخصية ذاتها، تأتي ملعونة خلال سرد شخصية أخرى.

فأن تتجمع قناعات الشخصيات المختلفة، وأحزانهم، وآهاتهم، مثل دخان كثيف في السماء، فهذه طرقة ملتوية تتبعها الكاتبة، بجعل الحبكة، ذاتها، هي منطقة الحيرة، والصراع الشعوري، في الحكم على الأحداث.

مشرحة

ولعل موضوع السرد، جاء ممثلًا للنوب عن الآخرين حينما يغيبون، فكانت الثورة هي المتاهة الكبيرة التي تدور حولها الشخصيات، وكان الفن، اللاعب الأساس بتحريك صفاتهم، وكأن الثورة في حياتهم كانت خيالًا فنيًا، حملوه مثل قنبلة قابلة للانفجار، وما لم يخطر في خيالهم، أن هذه اللعبة ستحيلهم جميعًا أمواتًا، بهيئات مختلفة: "نفس البنت التي وقفت أمام رجل ميت في مشرحة، ورجل ميت في زنزانة، ورجل ميت على رصيف محطة، ثم تحولت بعد كل هؤلاء الموتى في حياتها إلى تمثال يقف في شرفة".

تتجمع قناعات الشخصيات المختلفة وأحزانهم وآهاتهم، مثل دخان كثيف في السماء.

ثيمات مختلفة

أما لغة السرد فكانت شاعرية، تحمل العمق والتلميح، وتصنع الأثر ما بين السطور، وتبعث برائحة حزينة في النفس، ولا تتوقف عن إحداث الصمت والترقب، وتأجيج الخيال.

وتميزت المشاهد التي قامت الكاتبة ببنائها، بالتشكيل السينمائي تارة، والمسرحي تارة أخرى، وحتى طريقة صياغة العمل الروائي، عبر اللون والحركة والسكون والصوت.

واعتمدت الحالة الشعورية خلال السرد على الاعتام وتخفيف الإضاءات، فلون الوجوه لطالما أعطى نبرة السواد، باعثًا خيالات، بأن هناك أشباحًا تتحرك، لا شخصيات.

إذ تمكنت نورا ناجي من التنويع في طريقة البناء المحتمل للشخصيات، من خلال تعددية الأشكال الفنية التي تجمعها، مانحة سرديتها مساحة أكبر من التأويل والتحليل، ومتعة وجمالًا، وذلك خلال 268 صفحة من القطع المتوسط، مقسمة على سبعة فصول.

شخصيات

الشخصية الوحيدة التي تسرد أحداث ما قبل الثورة هي شخصية سعد، وقد مات في أحداث الثورة، "موقعة الجمل" حاملًا رصاصة في عينه، للأبد.

تلك الرصاصة التي تلقاها سعد خلال مواجهات ثورة يناير، تحمل رمزية إسكات الحقيقة/ موت النظر والإعتام، فكان يحمل عين فنان، يبحث عن الحقيقة، ليجردها من الواقع الأليم، ويضعها في قالب الفن الذي لا ينتهي.

أخبار ذات صلة
زهران القاسمي: رواية "تغريبة القافر" مستقاة من التراث الشعبي والبيئة العُمانية

أما "مصطفى" الفنان السمعي، فشخصيته تتقن انتقاء الأصوات وتسجيلها، لاستعادة الذكريات، لكنه يتحول بعد وفاة صديقه "سعد" إلى شبح يجري في نفس المكان، مهما تعددت الأماكن في حياته، إلا أنه بقي شاردًا للمكان ذاته، الثورة وما بعدها، وسعد وما بعده.

فيما كانت "نانا" حلقة وصل أخرى ما بين الشخصيات، من خلال علاقاتها المتعددة، إذ انساقت خلف رغباتها، لتحقق الاكتفاء والتوازن الذي فقدته في طريقها، فكانت حياتها ممتلئة بالتجارب، فارغة من المعنى، وكانت لحظة إمساكها بيد سعد الباردة، في ثلاجات الموتى، بمثابة زمن آخر، طغى على حياتها فيما بعد، فلم تنل الدفء منذها.

"نانا" التي عاشت بذاكرة مُعطبة، تجرها إلى الحنين، لاسترجاع مصطفى، حتى خلال علاقتها مع يحيى، ومثّل البرود، رحلة شقاء جمعتهما، آلت إلى نهاية حتمية.

من السرد: "تركتِ مشاعرك مجمدة في مشرحة زينهم، عندما لمستِ يد سعد ووجدتِها باردة جدًّا، مثل كيس البسلة الذي تخرجينه من الفريزر ويجمّد يدكِ ويؤلمكِ قبل أن تضعيه أسفل صنبور الماء الدافئ لم تتمكني من استعادة دفء يدكِ هذه المرة".

لكن يحيى الشاعر، يجد الحب مع ياسمين الطبيبة الشرعية، والكاتبة المدونة، لكن المرض النفسي يحيط ياسمين بجدران موحشة، ويبتعد يحيى بعد زواجه منها، ليصير هو الآخر مريضًا بياسمين، ووحدته، وافتقاده لشخصيته التي تمناها، حتى أعماله الفنية للمشاهير، فيما بعد، لم تروِ شغفه.

تمضي أحداث الرواية حتى نهايتها، باحثة عن أحلام جيل بأكمله، تاهت قبل وبعد الثورة المصرية، فنجد، سعد ويحيى ونانا وياسمين وعمرو، صاروا، في لحظة، حجارة لا تتحرك، وإن أتيح لهم الحركة، فإنهم يجرون لسنوات طويلة في نفس المكان.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com