الدكتور أحمد يوسف
الدكتور أحمد يوسف

الناقد أحمد يوسف: ما زلنا كأمّة نراوح مكاننا.. ومشكلة لغتنا في مناهج التعليم

يعد العلامة الدكتور المصري أحمد يوسف، أستاذ النقد الأدبي والبلاغة، أحد أبرز الوجوه العربية الثقافية، خاصة مع نيله أخيرًا جائزة الدولة التقديرية، وهي من أرفع الجوائز التي تمنح سنويا للمتميزين.

وتزخر مسيرة العلامة المصري بالمنجزات الأدبية والنقدية والفكرية على مدار نصف عقد، كان آخرها إصداره كتاب "أم كلثوم.. الشعر والغناء".

توجهنا بأسئلتنا في "إرم نيوز" للدكتور أحمد يوسف، وقد هنأناه بجائزة الدولة التقديرية في مجال الآداب، وأبحرنا معه في رحلة قصيرة بهذا الحوار:

القرآن.. ككتاب سماوي، أين تكمن صعوبات الغوص فيه لغويا؟ وكباحث لغوي نظر في القرآن، وحاول إعادة قراءته، هل ترى أن هذا الجانب اليوم "مغيّب"؟

أولا، أشكرك على تهنئتك لي بفوزي بجائزة الدولة التقديرية في الآداب في مصر.

القرآن كتاب الله الذي أنزله وحيا منجما بنصه على نبيه عليه الصلاة والسلام. وهو كتاب بياني بامتياز لا يضاهيه كتاب آخر من كتب السماء، ولا كتب البشر. ولغة القرآن ليست لغة العرب زمن نزوله، ولا لغة الشعراء مع أنها من معين اللغة العربية: مفرداتها، وتراكيبها وأنساقها المعروفة. وهذا يفضي إلى القول بأنه قول مفارق دال على نظمه وعلى أنه معجز بهذا النظم.

وقد كتبت كتابي عن القرآن "في صحبة القرآن" ناقشت فيه قضايا كثيرة، على رأسها كيف نفهم إعجاز القرآن اليوم، وقد اختلفت السياقات الثقافية والاجتماعية والعلمية اليوم عن مثيلتها وقت نزوله؟ وكيف خاطب القرآن الإنسان بغض النظر عن إيمانه به أو عدم إيمانه. فهو لم يأت للمؤمنين فقط، بل أتى لكل الناس؟ وكيف اختلفت بيئة مصر حين استقبلت الأنبياء يوسف وموسى وعيسى وغيرهم، عن غيرها من البيئات الأخرى؟ ولكي يكون القرآن حاضرا في مناشطنا التعليمية والثقافية، علينا أن نبحث فيه عن خطاب الإنسان وما يواجهه اليوم من تحديات. ولعل هذا هو الذي دعا غوته إلى القول "إن يكن ذلك هو الإسلام فكلنا مسلمون"، بعد أن درس سيرة النبي وتعاليمه.

والقرآن كتاب عقيدة وأخلاق ونظر حقيقي في الكون ودعوة إلى إعمال العقل، يخاطب كل مستويات قرائه ويصل إلى أعماقهم. ولا غضاضة في ذلك، ولكنها تأتي من التجرؤ عليه ممن لا يمتلكون العلم اللغوي والبياني وطرائق تحليل الخطاب.

الشعر مثل كل الفنون يستجيب للتحولات الحضارية الكبرى، وهذا الذي جعل الشعر يفقد ميزته الكبرى من حيث إنه كان الفن الوحيد، ونافسته فنون مستحدثة مثل القصة القصيرة والرواية والدراما وكل أشكال الكتابة المعاصرة

نحن كأمة عربية، بين أزمات سياسية وفكرية وعقائدية ومزاحمة الواقع الافتراضي لنا، كيف يمكننا مواجهة كل هذا؟

مضى على التنوير في بلادنا ما يقرب من قرنين من الزمان، وما زلنا نراوح في مكاننا. لم نحسم موقفنا من العلم، ولا من العقل، ولا من الوجدان، ولا من الدين، ولا من تطوير المجتمع، ولا من تراثنا الممتد عبر القرون إن كان عربيا، وعبر آلاف السنين إن كان مصريا، ولا من كيفية قراءة هذا التراث، ولا من أدب الحوار، ولا من احترام ذوي البصائر والمواهب الكبرى. فليس النقد مسبة ولا منقصة، بل هو أداة علمية للإثراء وتراكم المعرفة التي ينتج عنها التطور المادي المنشود. ولكنه عندنا باب من أبواب القدح، واشتعال النيران، وجعل الأرض العمار أرضا خرابا يبابا. لم نعرفه وسيلة للاختلاف البناء، والاتفاق المنشود. فمبدأ لا قداسة لأحد، يعني لا أحد فوق النقد. وفعلا لا قداسة لأحد، ولا أحد فوق النقد. ولكن من ينقد من؟ وكيف ينقد؟ وما الغاية من النقد؟.

فأهداف التنوير في أوروبا مثلا كانت قراءة متطلبات النهضة التي هي متطلبات الواقع الاجتماعي، وقراءة التراث البشري واليوناني واللاتيني لتطويره وتطويعه لأهدافهم، والتفتح على التجارب الحضارية عند كل الأمم لاستقبال مناهجها قبل نتائجها. فرأى أهل الفكر والرأي أن لا مفر من العلم، ولا من القانون، ولا من تنظيم المجتمع. فجعلوا القانون سيدا، والعلم بمناهجه وسيلة لفهم الطبيعة والإنسان، والدين بقيمه وتقاليده أسا من أسس الأخلاق والتربية، واستمدوا منه ومن العلم الغايات النفعية للعمل والإنتاج واكتشاف الموارد وفتح الأسواق.

لم يعادوا الدين وإن عادوا الفكر الديني السقيم، ولم يعادوا ذوي البصائر والمواهب الكبرى ولو كانوا من غير بني جلدتهم، ولم يسعوا إلى تفتيت موارد القوى الكلية في المجتمع. رأوا أن الدين والفكر والفن والعلم مثل الاقتصاد والقوى الخشنة سواء بسواء. اختلفوا، وتساجلوا، ولكنهم لم يسعوا إلى شقاق أو إقصاء. آمنوا أن الآحاد الصحيحة هي مجموع القوة، وأن الأفراد المختلفين على الإثراء والإضافة خير من أفراد كالقطيع يسوقهم راع ويهش عليهم بعصاه. لذلك علينا أن نصحح المسار بتصحيح الأهداف والوسائل. ولن تنال أمتنا مكانتها بين الأمم إلا إذا اتبعت سنن التطور على نحو ما بيّنا.

أخبار ذات صلة
"من أين ندخل إلى التسامح؟" للمفكر محمد وردي.. رؤية فلسفية لعالم تنهشه الصراعات الوهمية

الشعر "ديوان العرب"، أين هو الشعر العربي اليوم؟ وإذا ما أردنا تصنيف توجهاته أو مدارسه، فهل يمكن ذلك؟

الشعر العربي أقدم فن قولي عرفته العرب. وهو في اتصاله بالإنسان، فن شفاهي يجسد تحولاته الوجدانية والعقلية في بيئة امتازت بالاتساع المكاني، وتنوع الموارد النباتية والحيوانية. وقد أدى ذلك إلى قلق الإنسان على الحياة، والخوف من المجهول الذي يعني تسرب خيوط الحياة كما يتسرب الماء بين الأصابع. وإذا ما أضفنا ندرة أسباب الحياة، والصراع من أجل الوجود، فإن الشعر بذلك كان "ديوان العرب"، بل علمهم الذي لم يكن لهم علم أصح منه.

والشعر مثل كل الفنون يستجيب للتحولات الحضارية الكبرى، وهذا الذي جعل الشعر يفقد ميزته الكبرى من حيث إنه كان الفن الوحيد، ونافسته فنون مستحدثة مثل القصة القصيرة والرواية والدراما وكل أشكال الكتابة المعاصرة. فأخذت منه وأعطته. فنسمع عن شعرية الدراما والرواية، كما نسمع عن سردية القصيدة. ومن ثم فإن الشعر لم يختفِ ولن يختفي، ورأى الشعراء أن يكتبوا قصائدهم في أشكال جديدة من حيث الإيقاع، ومن حيث البناء. مثل ما يُعرف بالشعر الحر أو قصيدة النثر التي أتحفظ على تسميتها.

أرفض القول السائد وهو أنه ليس لدينا مناهج نقدية عربية، فهذا قول هراء في ظل حضارة واحدة يسهم في منجزاتها كل أبناء العالم المعاصر

طالبت سابقا بإصلاح المناهج التعليمية في تدريس اللغة العربية، أين هو الخلل؟ وكيف هو الحل؟

كتبت كثيرا عن اللغة العربية وغربتها بين أهلها، وتحدثت عن ذلك في مؤتمرات ولقاءات إذاعية وتلفزيونية. ومشكلة اللغة هي مشكلة سياسات التعليم في كل البلاد العربية. فصرنا نرى أنواعا كثيرة من التعليم مثل التعليم الديني، والتعليم المدني، والتعليم الفني والمهني، والتعليم الأجنبي الذي أتاح لدول نافذة أن يكون لها مدارس تنافس المدارس المحلية. وقد أدى ذلك إلى وجود تعليم للأغنياء، وتعليم للفقراء وذوي الدخل المحدود والمتوسط. ومن البدهي أن تكون اللغات الأجنبية هي الحاضرة بقوة، وأن تتوارى اللغة العربية في مناهج هذا التعليم وسياساته.

وازداد الأمر سوءا حين ارتبط سوق العمل في كل البلاد العربية باللغات الأجنبية. ولذلك سنظل غير قادرين على إنتاج العلم والمبتكرات لأننا لا نتعلم كيف ننتجها بلغتنا، وسنظل مستهلكين، وستظل كل المنتجات لا تحمل اسما عربيا لأنها قرينة بمنتجها. وهذا الأمر علاجه ميسور إذا توفرت الإرادة السياسية والشعبية.

الملاحظ في الأدب وأشكاله المختلفة كالقصة والرواية والشعر.. غياب منهج نقدي حقيقي، هل ترى فعلا فراغا نقديا في عالمنا العربي؟ ولماذا؟

ينبغي القول إن الإبداع ذو شأن تركيبي. فالمبدع من الشعراء والكتاب يبني عمله من فسيفساء فكره ووجدانه ورؤيته للعالم ومنه واقعه الاجتماعي. أما تلقي هذا الإبداع فليس واحدا، لأن الشاعر أو الكاتب حين ينشر عمله فهو لا يدري من سيقرؤه.

فالقراء متعددون بتعدد ميولهم ومواقعهم الاجتماعية ومكوناتهم الفكرية والثقافية، لذلك نجد صورا كثيرة لتلقي العمل الواحد. وإذا قلنا إن القراء متفاوتون من حيث امتلاك أدوات القراءة وعلى رأسها المنهج، فإن الناقد المتخصص يقع في أعلى مراتب القراء. وهذا الناقد إن امتلك المنهج، فإنه يسير سيرا عكسيا لسير المبدع. فمبتغاه تحليلي خالص، بمعنى رد العمل إلى عناصره المكونة له ورد كل عنصر إلى جزيئاته الأولى. وهو في هذا السعي يهدف إلى النظر الكلي للعمل المنقود بإعادة التركيب مرة أخرى. وهذا عمل شاق لا يمتلكه إلا أولو العزم من الجادين الذين يعرفون العلم ومناهجه وتكامل حقول المعرفة. والنقد في هذه الحالة عمل علمي خالص لأنه مبني على مفاهيم وإجراءات واضحة. أما ما سوى ذلك فهو محض قراءة تمثل حالة القارئ وحده ولا تمثل العمل المقروء.

ولذلك أرفض القول السائد وهو أنه ليس لدينا مناهج نقدية عربية، فهذا قول هراء في ظل حضارة واحدة يسهم في منجزاتها كل أبناء العالم المعاصر. فالعلم ليس له وطن ولا قومية ولا دين. وإن كان للعالم وطن أو دين أو قومية.

والموضوعية في النقد هي أن يكشف الناقد عن أدواته ومفاهيمه وإجراءاته. والموضوعية بهذا الفهم لا تختلف عن الذوق الذي يعد أساس النقد لأنه صادر عن دراية ورواية ومعاشرة.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com