"جنيات إينشيرين".. فيلم مكلل بالجوائز يسير بقوة نحو الأوسكار

"جنيات إينشيرين".. فيلم مكلل بالجوائز يسير بقوة نحو الأوسكار

يقدم المخرج البريطاني مارتن ماكدونا في فيلمه الجديد جنيات إينشيرين (The Banshees of Inisherin) معالجة خاصة للملل والعزلة في جزيرة إيرلندية منسية، تعيش أصداء الحرب الأهلية التي جرت في إيرلندا في عشرينيات القرن الماضي، زمن الفيلم.

ولا ينتمي الفيلم إلى أي نوع سينمائي قد يحظى باهتمامات الجمهور، فهو ليس فيلم رعب ولا أكشن ولا مغامرات، ولا فيلم حربي أو تاريخي أو سيرة ذاتية.. بل هو شريط سينمائي يستحضر مناخات سينما بيرغمان وتاركوفسكي، وهو مترع بالشجن الخفي القابع في نفوس شخصيات أدارت ظهرها للعالم، وراحت تبحث عن صوتها الخاص في تلك الجزيرة الساحرة.

سحر الجزيرة وجمالها الأخاذ هو النقيض لما يعتمل في دواخل الشخصيات من الكآبة والضجر، فلا شيء يحدث في الجزيرة الرتيبة، ولا يصل إلى مسامع أهلها سوى صخب الأمواج، ودوي المدافع التي تروي فصول حرب تجري في البر الرئيسي من دون أن ينشغل أهل الجزيرة كثيرًا بها.

يقدم المخرج البريطاني مارتن ماكدونا في فيلمه الجديد جنيات إينشيرين معالجة خاصة للملل والعزلة في جزيرة إيرلندية منسية، تعيش أصداء الحرب الأهلية

في هذا الفردوس الأخضر المحاط بزرقة البحر، تسير كاميرا المخرج طبقًا لسيناريو محكم الصياغة، كتبه بنفسه، لتلتقط على نحو لماح كل جماليات هذا المكان الرحب الذي لا يسكنه سوى عدد قليل من البشر، يجتمعون في الحانة الوحيدة، في انتظار أخبار، مهما بدت تافهة، للتغلب على الضجر في بيئة راكدة لا يتغير فيها شيء.

ووسط هذه الرتابة اليومية، يغدو حدث بسيط كمقاطعة العجوز عازف الكمان كولم (بريندان غليسون) لصديقه المزارع البسيط بادريك (كولين فاريل) حدثًا رئيسيًا ينشغل به كل سكان الجزيرة، ويبني عليه المخرج حكاية فيلمه التي تتأرجح بين الجد والهزل، وبين التراجيديا والكوميديا في توليفة تمنح الشريط ثراءً بصريًا مدهشًا.

نكتشف خلال الحوار أن العجوز كولم بدأ يشكو من غياب أي معنى لحياته، مع اقتراب موته، وبات يشعر بقلق وجودي في تلك الجزيرة المسالمة التي تعيش على وقع حرب تدور رحاها بجوارها لكنها لا تتأثر بها.. من هنا قرر كولم أن يتفرغ لموسيقاه، وأن يؤلف ألحانًا تجعله خالدًا في ذاكرة البشرية، مثل موتسارت، لذلك قرر انهاء صداقته مع بادريك الذي يحدثه عن أمور سخيفة، فهذا الأخير يمثل "الطيبة والبراءة والسذاجة"، وهو يعتقد أن "اللطف" كفيل بجعل الانسان خالدًا في الذاكرة، لا الأعمال الفنية الفذة.

أداء كولين فاريل

ورغم بساطة الحبكة الدرامية للفيلم، لكن المخرج بدا مدركًا لكيفية تصاعد الأحداث بأبسط قدر ممكن من الوقائع.. إنه يتكئ على الحوار المتقن، والسرد البصري الآسر، والموسيقى والأغاني القادمة من عمق التقاليد الإيرلندية، وقبل هذا وذاك، يعتمد على الأداء اللافت لأبطاله، خصوصًا كولين فاريل، الذي قدم شخصية الريفي البسيط باقتدار وصدق فني عبر ردود أفعاله العفوية، وتعبيرات وجهه التي جمعت بين السذاجة والدهشة، والغضب والرضا والرفض.. ومن خلال حوار متلائم مع مستوى تفكيره، ويمكن اعتبار هذا الدور أحد أجمل أدوار فاريل.

ضمن هذا الجو الرتيب والخانق، يحرك "ماكدونا" خيوط السيناريو بذكاء، ويعرف كيف يعبر عن الضجر بسرد سينمائي ينطوي على الكثير من الطرافة والتسلية، فهو يعلم كيف يصعد الأحداث ذات الطابع الكوميدي الى نهايات تراجيدية، عندما يهدد "كولم" صديقه الذي يطارده أنه سيقطع إصبعًا من يده التي يعزف بها كل مرة يقترب فيها منه، كي يظهر له مدى جديته.

أخبار ذات صلة
غولدن غلوب 2023.. "ذا فايبلمنز" أفضل فيلم و"كيت بلانشيت" أفضل ممثلة

ثم يفاجئنا ماكدونا بعنف عندما نجد إصبعًا مقطوعًا على باب منزل "بادريك"، كان العجوز جادًّا إذًا، ولن يكون ذلك إصبعه الأول، فسرعان ما يقطع أصابعه الخمسة، وهي خسارة فادحة لعازف.

ويطرح الفيلم أسئلة وجودية، ويغوص عميقًا في الكيمياء المعقدة للبشر، وهذا يبدأ من عنوان الفيلم "جنيات إينشيرين"، وهي أسطورة فلكلورية إيرلندية عن نساء متشحات بالسواد ينبئ حضورهن بموت قادم وشيك، وكلمة "Banshees" التي تعني "الجنيات" بالعربية، لا تشمل كل الجنيات، بل تعني تحديدًا تلك التي تصرخ في البراري بالنبوءات المخيفة والمميتة.

يستحضر المخرج هذه الرمزية في الفيلم عبر شخصية العجوز "ماكورميك" التي يتجنبها أهل الجزيرة، فهي دلالة على الشؤم، ولا تتكهن سوى بالموت، وهو ما يحصل فعلًا حين يموت الفتى دومينيك غرقًا، ابن الشرطي القاسي الذي كان يواظب على تعنيفه وضربه، كما يختنق حمار بادريك، بإصبع كولم المقطوعة، وكان الحمار هو الصديق الوحيد الذي بقي لبادريك، ويشعر معه بالأنس، فكان الإثنان يشتركان معًا في معنى البراءة الساعية إلى الأكل والنوم بسلام دون التفكير بأي شيء آخر.

وإذ يمثل العازف العجوز ذروة القلق الإنساني والبحث عن معنى للحياة، فإن بادريك على النقيض منه، يمثل البراءة والغفلة، وحين يصطدمان معًا تتحول الجزيرة إلى مسرح لعداء خفي، يضطر معها العازف إلى قطع أصابع يديه ليبعد بادريك عنه، بينما تتحول براءة هذا الأخير إلى انتقام يحرق منزل صديقه.

نال الفيلم حتى الآن الكثير من الجوائز، وحصد مؤخرًا ثلاث جوائز رئيسة للجنة تحكيم "غولدن غلوب" في نسخته الـ 80، الذي أقيم في مدينة لوس أنجلوس الأمريكية

وبجانب هاتين الشخصيتين الرئيستين، ثمة شقيقة بادريك التي تعتزم الرحيل عن الجزيرة التي لم تجد فيها صديقًا يفهمها سوى الكتب، وبرحيلها عن الجزيرة بدت وكأنها أرادت الهبوط من هذا الفردوس المنسي الذي يبعث على الملل، إلى البر الرئيسي الصاخب بحثًا عن معنى آخر للحياة، كانت قد اكتشفته في صفحات الكتب من دون أن ترى معادلًا له في الجزيرة المجهولة.

مكلل بالجوائز

نال الفيلم حتى الآن الكثير من الجوائز، وحصد مؤخرًا ثلاث جوائز رئيسة للجنة تحكيم "غولدن غلوب" في نسخته الـ 80، الذي أقيم في مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، وهي جوائز أفضل فيلم في فئة الاستعراض أو الكوميديا، وأفضل سيناريو، فضلًا عن جائزة أفضل ممثل للنجم كولين فاريل.

وفي مهرجان فينيسيا الأخير، الذي يعد أحد أبرز المحافل السينمائية العالمية الى جانب مهرجاني كان وبرلين، كان الفيلم قد نال كذلك جائزة أفضل ممثل لكولين فاريل، وجائزة أفضل سيناريو.

وبهذه الجوائز وغيرها، فإن الفيلم مرشح لحصد أكبر قدر من جوائز الأوسكار لعام 2023 والمقرر الإعلان عنها مطلع آذار/ مارس المقبل.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com