"اللقالق البيضاء" لرسول حمزاتوف.. معزوفة السلام في زمن الحروب

"اللقالق البيضاء" لرسول حمزاتوف.. معزوفة السلام في زمن الحروب

تنبع القصيدة من وجدان الشاعر وأعماقه بكل ما يختلج فيها من مشاعر وأحاسيس متباينة، وتصبُّ في محيط كلماته التي يصيغها ويحيكها لتتوافق مع الحالة واللحظة التي يعيشها، فحيناً تشنف الآذان نغماً وحبّاً، وأحياناً توجع الأفئدة همّاً وكرباً، وفي الحالتين تتحوّل القصيدة ناقوساً يدندن ألحان الفرح أو الحزن في فضاءات الذاكرة.

من بين القصائد التي ولدت من رحم الألم والمعاناة، قصيدة "اللقالق البيضاء"، والتي تُسمى أيضاً "الغرانيق البيضاء" للشاعر الداغستاني القدير رسول حمزاتوف "1923 – 2003"، وهي واحدة من قصائده العصماء، وفيها يسلط الشاعر الضوء على أهوال الحروب التي تسلب السلام من القلوب، والسكينة من الأرواح، والبهجة من الأنفس، وتترك خلفها أهوالاً لا تمحوها السنون، وجراحاً تسكن الأعماق وتأبى أن تندمل.

حلّقت "لقالق حمزاتوف" في فضاء الأدب فور صدور القصيدة التي اشتهرت عالمياً في ستينات القرن العشرين على وجه الخصوص، لتتحول إلى حديثٍ لمجالس الأدباء والمثقفين، وكلماتٍ لأعمال أشهر الفنانين

"جيش السلام"

تبعثرت كلمات القصيدة في مخيلة حمزاتوف عقب زيارته لمدينة هيروشيما اليابانية التي انفجرت في أحشائها قنبلة ذرية خلال الحرب العالمية الثانية، فحوّلت ألوانها الزاهية إلى رماد يكتم أنفاس الجمال، وأكثر ما مزّق قلب الشاعر الداغستاني هو رؤيته لتمثال الطفلة اليابانية "ساداكو ساساكي" التي هشّمت القنبلة الذرية زجاج طفولتها الرقيق، وعلى وجه الخصوص "اللقالق الورقية" التي صنعتها خلال تلقيها العلاج في المستشفى، قبل أن تفارق الحياة بعد أعوام متأثرة بالإشعاعات التي خلّفتها القنبلة، تاركةً خلفها "جيشاً" من لقالق السلام الورقية التي ظلّت عالقة في وجدان حمزاتوف الذي استلهم منها عنوان قصيدته "اللقالق البيضاء"، حيث يقول فيها:

أحياناً يبدو لي

أن الجنود الذين لم يعودوا

من الحقول المغطاة بالدم

لم يدفنوا في أرضنا حينذاك

وإنما تحولوا إلى لقالق بيضاء

وحتى هذه اللحظات

ومنذ ذلك الزمن البعيد

يطيرون ويرسلون لنا الأصوات

أخبار ذات صلة
روعة سنبل تضع الربح والخسارة في ميزان "دو، يك"

الطريق الطويل

حلّقت "لقالق حمزاتوف" في فضاء الأدب فور صدور القصيدة التي اشتهرت عالمياً في ستينات القرن العشرين على وجه الخصوص، لتتحول إلى حديثٍ لمجالس الأدباء والمثقفين، وكلماتٍ لأعمال أشهر الفنانين، كما أصبحت محوراً للأغاني والأناشيد الداغستانية والروسية، أما جنود الاتحاد السوفيتي السابق الذين قضوا في الحرب، فباتت تلك اللقالق المحلّقة رمزاً للنُصب التذكارية التي شيّدت تخليداً لذكراهم، وينشد الشاعر الداغستاني في جزء من قصيدته، قائلاً:

اليوم وقبل الغروب

أرى هذه اللقالق في الضباب

تطير بتشكيلتها المعهودة مثلما كانت

تسير على الأرض عندما كانت بشراً

تطير لتقطع طريقها الطويل

وتصرخ بأصواتٍ ما

أخبار ذات صلة
"طفولة من قش".. رواية مصورة للسويسرية ليكا نوسلي

رحلة اللاعودة

كانت الطفلة اليابانية "ساداكا ساساكي"، التي أوقدت شعلة قصيدة "اللقالق البيضاء" في وجدان حمزاتوف، تبلغ من العمر عامين حين تعرضت مدينتها هيروشيما للقصف بقنبلة ذرية حقنت إشعاعاتُها جسد الطفلة بوباء السرطان، وبعد أعوام قليلة، حلّقت "ساساكي" صوب السماء دون توقف.

لكلِّ شعب "ميثولوجيا" يحكي قصصه وأساطيره بكلّ ما تحمله من واقعية أو خيال، وإحدى الأساطير اليابانية تقول إن من يتمكن من صناعة ألف طائر لقلق من الورق، فإن أمانيه كلّها ستتحقق، ولعل هذا ما دفع الطفلة "ساداكا ساساكي" إلى البدء بصناعة لقالقها المسالمة، لعلّها تحقق أمنية ما لم يُسعفها الوقت لكي تبوح بها، فالحرب حالت بينها وبين الوصول إلى العدد الذي يحقق لها تلك الأماني البريئة، فحلّقت مع السرب الذي كان حولها حينذاك.. إلى حيث اللاعودة.

وخصص حمزاتوف لهذه الحادثة الموجعة جزءاً من قصيدته، إذ يقول:

يطير ويطير.. عابراً السماء

هذا السهم التعب

يا أصدقاء الماضي.. ويا أحبائي

إن في تشكيلتكم هذه فراغاً ضيقاً

لعلّه مكان مخصص لي

سيأتي يوم.. ومع سرب اللقالق...

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com