في رواية "العاوون".. نزعة الإنسان إلى الحرية

في رواية "العاوون".. نزعة الإنسان إلى الحرية

يعالج الكاتب السوري إسلام أبو شكير، الآثار المترتبة على قمع الإنسان، وإخراسه عبر العنف الاجتماعي وأثر القوة الناعمة للمجتمع كذلك، في بث الخوف في ذات الإنسان، وفقدان حريته، عبر رواية "العاوون" الصادرة عن دار ممدوح عدوان للنشر 2022.

وتدور أحداث الرواية، حول شخصية لم يمنحها الكاتب اسمًا؛ بهدف التعميم، هذه الشخصية ولدت بجناحين، وهو ما يجسد حدثاً غريباً طارئاً، يكسر النمط المعتاد.

وتوصف الأحداث المخاض الذي تمر به شخصية كهذه وسط مجتمع بأكمله، يألف المشي على الأقدام، ويألف الكساح، لكنه لا يتقبل فكرة الطيران للجسد عبر جناحيه.

وتمضي هذه الشخصية بوتيرة ساخنة متأزمة، نحو طريقة الحياة كمختلف في مجتمع يهوى التنميط، والصورة الدارجة للشكل والقناعات، كاشفة عن صراع اجتماعي وذاتي، متشعب، يشتمل على الصراع الذاتي، من جانب والصراع مع المجتمع بفكرته الثابتة، من جانب آخر، عبر 124 صفحة من القطع المتوسط، قسمها الكاتب إلى ثلاثة فصول، دون عناوين.

وجاء مشهد البدء متوتراً، مشحوناً عبر اختيار الكاتب لحظة انتظار حدث ما، وهي لحظة تبدو عصيبة محفزة في حياة الإنسان، فكانت نتيجة الولادة هي دافع الأب صبحي لتوتره في انتظار مولوده الأول، وقد كان هو بطل الرواية الذي يحمل صفة الاختلاف بجناحيه.

الأجنحة كرمز

وتبدو رمزية الجناحين التي اعتمدها الكاتب من أجل بث الصراع في سرديته، هي البؤرة التي تدور حولها كافة المشاعر والأحداث، بحيث كانت الغرابة هي الأداة التي تطلبها هيكله الروائي لتأجيج مشاعر الدهشة والتعلق بالنص، وقد أضاف إليها متانة اللغة وطريقة العرض الملفتة، من حيث قدرته على تقديم المشهد المختصر، خلال عرض الأحداث ومن ثم تفصيله في مشهد آخر.

ويتجسد من خلال هذين الجناحين، مفهوم الحرية التي يهدف إليها "أبو شكير"، حيث يفصل كيف يكون الخوف والجبن أمام البيئة المحيطة، سبباً في انتزاع الحرية من الإنسان، وإلغاء شخصيته وصوته الاجتماعي الحقيقي، بحيث يتحول القمع مع الوقت، إلى رقابة ذاتية يخضع الإنسان لها، في كافة قناعاته وأفكاره، ويعالج النص، الصور التي من خلالها، تستمر عملية التنميط الاجتماعي في تقليص قيمة الإنسان وقمعه، بحيث يبدو مبادراً دائماً نحو المألوف.

أثر بطيء

وتتدخل رواية الكاتب أبو شكير في عمق التفاصيل الاجتماعية التي تصنع الإنسان وتسهم في تشكيل هويته، بحيث تتم التعبئة الاجتماعية على المدى الطويل، وبشكل بطيء، بما يشكل الحاجز الاجتماعي الأول في حياة المرء، حال امتلك صفة مختلفة عن بيئته.

فتظهر طريقة المجتمع بطريقة "اللوبي" الضاغط على الوعي، من أجل قص الأجنحة، التي تهيء الإنسان لمساحة أكبر من الحرية، مساحة شاسعة تمنح الإنسان اللذة التي يطمح إليها في اكتشاف شخصيته الحقيقية.

ويلمح أبو شكير، بأن استمرار المنع والتقزيم للإنسان عبر السلطة السياسية، يحيله إلى إنسان غبي، يمشي على سطر وحيد، لا يحيد عنه، ويصبح كتلة من الخلايا تعيش على التكرار.

ميزان

ولقد كانت شخصية أبو محارب هي الكفة التي يعدل من خلالها "أبو شكير" ميزان السرد تارة، ويجعله متأرجحاً تارة أخرى، بحيث أعطى بعفويته وتلقائيته، وبذاءة ألفاظه تجاه النسيج الاجتماعي برمته، نمط المعترض الصارخ، إذ كان يعلو بصوته لا بأجنحته التي سلبه المجتمع إياها عبر العنف والقمع والتعذيب.

لقد فقد أبو محارب جناحيه (حريته) منذ الصغر، وتحول إلى مجرد كائن يركن إلى الأرض لا الفضاء الشاسع، يرقد متعبًا ولا يستطيع الطيران.  ويوصف النص منع الحرية بمشهدية مؤلمة، بحديثه عن النُدب التي تبقى في ظهر الإنسان بعد قص أجنحته فيقول: "بدت أقرب ما تكون إلى ألسنة مقطوعة".

روماتيزم

وأعطى الكاتب بطريقة ذكية، إيحاءات توضح مدى الألم والعجز الذي يحمله أبو محارب، وكذلك أي إنسان تعرض للعنف من أجل الإخراس والتلجيم، حيث أضاف للشخصية ركن الألم، عبر مرض (الروماتيزم)، والذي جعله الكاتب سبباً في قلة حركة أبو محارب، وألمح كذلك، إلى أن التخريس الإجباري يهدم قواعد الإنسان من منبتها.

من الرواية: "عندما مددوني على الأرض، حشا أحدهم فمي بقطعة قماش التقطها من الأرض، حاولت أن ألفظها، لكنه دفعها بعنف إلى الداخل، إلى درجة أنه حطم أحد أسناني الأمامية، فعلوا ذلك كي لا أتمكن من الصراخ".

نزعة

وتكشف النوفيلا عن نزعة الحرية المتأصلة في الإنسان، لكنها توضح كيف من الممكن أن يخسر الإنسان حريته، عبر المحو والتهميش والقمع، وهي طريقة تمارس في المجتمعات العربية بشكل متكرر، ويضيف الكاتب طريقة أخرى، وهي الاعتيادية، بحيث تفقد الشخصية حريتها، مع تكرار الضغط واشتداد الرقابة، بحيث يتحول الخوف من كل شيء، هاجساً يمضي به الإنسان، ومع الوقت، يفقد حريته التلقائية، فتذوب الأجنحة وحدها.

يكتب أبو شكير: "لم أكن أعلم أن الأجنحة تختفي من تلقاء نفسها، كنت أظن أنها تستأصل فقط، تقتلع بالسكاكين والمقصات والسواطير فقط، أو بمبضع طبيب غبي في أحسن الأحوال".

مونولوج

وتوغل رؤية أبو شكير في الصراع الذاتي الإنساني ومشاعره تجاه الأشياء حوله، بحيث يتجسد المونولوج الداخلي للشخصية الطائرة، للفهم والتحليل والتمني، عبر اكتشاف السر في الخوف، ومراقبة الأثر الاجتماعي القائم على تشويه الشخصية لا تجميلها، فكان مقص الريش الكبير، هو الإيحاء الذي استخدمه الكاتب لفكرة تجميل قمع الحريات للعقول والقناعات بحُجة الحماية والوقاية، والاعتناء.

من الرواية: "تجاهل ألمه، وتمنى لو أن مقص الحلاق لم يعبث بهذين الجناحين، ذلك أن التشوه الذي أصابهما، كان على الأرجح وراء المشكلة التي عانى منها في توجيه نفسه، ولولا ذلك لتمكن من التحليق أعلى بكثير، وأبعد بكثير".

إن فكرة العواء التي جعلها إسلام أبو شكير "فاتيرنة" لنصه، تحمل صورة مختصرة لحراك داخلي أشبه بالمختبر، يخضع له الإنسان، بميله للحرية، وإن الأصوات التي يصدرها  الحر لحظة الولادة، ولحظة الإخراس، وكذلك التعذيب، وحتى التنميط البطيء من قبل المجتمع، ما هي إلا عواءات، تعبر عن شخصية خارجة عن النمط، أو تطمح لذلك على الأقل، ولا يتوقف "العاوون" عن إطلاق الصرخات، فهُم يعيشون بيننا على الدوام.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com