كيف يؤثر صوت الكاتب داخل النص؟

كيف يؤثر صوت الكاتب داخل النص؟

من جملة واحدة، تمر أمامنا، يمكننا معرفة قائلها من المؤلفين العظام، فتكون البصمة هي الغالبة على شكل وأسلوب وصوت اللغة لمن كرّس حياته للكتابة، واجتاز مراحل مختلفة في علاقة لغته مع القارئ، فمثلاً حينما نرى جملة: "يكون إنساناً بلا قانون، من يجعل من رغباته قانوناً"، نعرف أنها للكاتب الإنجليزي وليم شكسبير، وحينما نرى جملة: "ألمٌ غريب أن تموت من الحنين لشيء لم تعشـه أبداً" فنعرف أنها للكاتب الإيطالي أليساندرو باركيو، كما وأننا حين نرى مقطعا من قصيدة يقول: "يطير الحمام يحط الحمام، أعدّي لي الأرض كي أستريح، فإني أحبك حتى التعب" نعرف أنها للشاعر الفلسطيني محمود درويش.

وهنالك نماذج كثيرة من الكتّاب من لديهم تلك البصمة المخترِقة التي توغل في حواس الإنسان، وتتمكن من صنع علاقة ما بين المرء واللغة، بحيث تنتج ما بين المشاعر واللغة ذاتها، ذاكرة خاصة، وإحساسا لا يمكن تكذيبه، وحال تكرر جملة أخرى للكاتب، بات من السهل معرفة مصدرها، من خلال نفس الصفات التي اكتسبتها الذاكرة مع طريقة الكاتب في تصنيع وتشكيل اللغة.

 صوت يطلقه النص

هذه الطريقة والصفات، وذلك التدرج الخاص مع اللغة، والصوت الذي يطلقه النص، هو ما يمكن تسميته: أسلوب الكاتب، حيث يغلب على النص ملامح تعمل مثل الجينات، تمضي اللغة من خلالها، فتبرز الطريقة التي يبني من خلالها المؤلف بنيانه اللغوي، من خلال تقديم الكلمات وتأخيرها، ومن خلال علامات الترقيم من عدمها، وأماكن التوقف والاستمرار لديه، وكذلك الإيقاع اللغوي الذي يتبعه، فكأن اللغة تمضي على إيقاع بالفعل، يميز كل كاتب عن الآخر.

تيار فكري

كما ويمكن ملاحظة الشكل الذي يقدم عبره المؤلف نصه، بمتابعة المواقف الفكرية لديه، وقناعاته، وتيار الوعي لديه، حيث تندرج تحت طبيعة الأسلوب القناعات التي لطالما نادى إليها الكاتب، والتي تظهر بشكل أو بآخر في نصه، وهو ما يرسخ في ذهن القارئ كأن نتفق على أن الكاتب الفرنسي "ميلان كونديرا"، يملأ النص بقناعاته الخاصة التي ترمي إلى الثورية واليسارية في العالم، فيما يرمي الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر، إلى طبيعة العلاقة ما بين الفرد والمجتمع، وكيفية تأثر الكل في الذات، ويطالب بعد التجربة الطويلة بأن يحدد الإنسان الصفات الخاصة التي يعيش بها، لا صفات المجتمع.

كما وأن فلسفة هيجل يمكن إدراكها من خلال كتاباته، ومعرفة حتى الكاتب المتأثر بنهجه، من خلال ذلك المزيج الذي نادى إليه ما بين كافة المعارف والعلوم، الكونية والإنسانية، الشعورية والعقلية، والواقعية والخيالية، للخروج بمفهوم المعنى لهذا الكون.

 مواقف كتلك تسهم في صناعة تلك العلاقة الدائمة مع الكاتب ولغته، وقناعاته وفكره، خاصة إذا كان يمتلك تلك البصمة النقية، التي تمكنه من الإدهاش وسحب القارئ إلى مكانة جدية من التفكير والتساؤل.

نمط اللغة

فهنالك من المؤلفين من لديه اللغة البسيطة، وليست البساطة هنا بمعنى الضعف أو السطحية، فتكون اللغة في متناول القارئ العادي، لكنها موحية طيعة في التعامل والتفكير، وهذا النمط تجسد في الكاتب المصري نجيب محفوظ الذي قدم الكثير من الأعمال بأسلوبه المتداخل مع الوسط الشعبي العربي، ووصلت لغته تلك بأعماله إلى العالمية، فترجمت كتاباته لمعظم لغات العالم، فمثلاً كتب: "لا أصدق خيال أهل حارتنا، فهم يؤمنون بأن الخير بدأ وانتهى في ماضِ غامض، ولا يفرقون بين الحقيقة والحلم، يفكرون بعواطفهم، ويحكمون على الأشياء بتعاستهم، ويصدقون أن الملائكة هجرت سماواتها".

تصنيع اللغة بشكل مختلف

فيما نجد اللغة عند الكاتب السوري سليم بركات، يتم تصنيعها بطريقة مختلفة تماماً، حيث يمكن أن تشعر بالفارق ما بين كاتبين عظيمين، وكأنها ملامح لكل منهما.

يكتب سليم بركات: "كان الكيسُ الأول، ربما، في تاريخ التحايل على عدم التفريط بما لا يمكن ليدي الإنسان على حمله، هو قطعةُ الجلد من لباسه نزعها الإنسان الأول المتستِّر الجسد، فجعلها صُرَّةً ربطَ أطرافها على الأطعمة، وحملها مع شريكٍ كلٌّ بيدٍ، مدلاَّةً من عصا رُبطتِ الصرَّةُ إليها، للعودة إلى الكهف حيث الجوعى المنتظرون.

كان الكيس الثاني في تاريخ الإنسان، ربما، جعبةُ سهام القنص تُغنيْه عن حمل سهمين لا أكثر، واحدٍ في القوس، وآخرَ بين أسنانه".

ويبدو جلياً، أن لغة بركات تحمل صفات وإيقاعات مختلفة عن لغة محفوظ، حيث يغلب عليها الكثافة والتراكيب اللغوية الجزلة، كما وتكثر فيها التقطيعات وبالتالي علامات الترقيم.

هواء خفيف وهواء ثقيل

لكن لغة نجيب محفوظ، فتحت الباب أمام انتشاره بشكل مؤثر في الوسط المصري ثم العربي والعالمي، فكانت طريقة الوصول أسهل وأسرع، فيما بقي الكثير من الكتاب العظام، مثل سليم بركات، محتفظين بنخبوية نصهم، أي أن، من يستطيع قراءة نصه هم المثقفون، المنخرطون في عالم الكتب، والذين يملكون تجربة جيدة مع اللغة والكتابة، فكأن لغة محفوظ انتشرت كهواء خفيف؛ بسبب أسلوبه.

إنها الصفات التي يمكن ملاحظتها داخل النص، هي صوت النص ونبرته، بالعلو والإخفاض، وطريقة مشية الكلمات، وحتى تلك الطريقة التي يقوم النص بسحب كتلة جسد القارئ معه، ورائحة احتكاك اللغة مع العقل والمشاعر، كل ذلك يتأثر بالزيادة أو النقصان، حسب أسلوب الكاتب وصوته وطريقته في الكتابة.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com