تستهدف الشاعرة السورية وداد نبي مجموعة من المشاعر الإنسانية الغائرة، الناجمة عن القمع وقت الطفولة، والغربة عن الوطن كذلك، وتتناول أيضًا، ما تعايشه المرأة الشرقية في ظل مجتمع يحظر عليها البوح وإبداء الرأي، خلال مجموعتها الشعرية "كسور غير مرئية" والصادرة عن دار رواشن للنشر 2022.
وفي مجموعتها تراقب وداد نبي المشاعر الإنسانية الغائرة، تلك التي نمارس حركاتها دون انتباه، فإغماض العينين لحظة الفرح، أو الاحتضان أو تقبيل الأحباب، أو لحظة عبور الذاكرة لمكان قديم، أو بعد التخلص من الألم، تدخلها الشاعرة حيز الشعر، فتصير أكثر حضوراً مصحوبة بمشاعر أخرى، كالخوف، والحسرة، والألم، والفقد، مشيرة من خلال ذلك إلى قسوة الواقع.
تفاصيل يومية
كما تجسد الشاعرة قدرة المرأة على تغيير تفاصيل حياتها اليومية وتبديل كل مظاهر حضورها لكنها تُبرز بطريقة الفكرة المفاجئة، في ختام النص، والتي تأتي عكس السياق.
كما ويأخذ مسار المجموعة الشعرية قِسطاً من الإيروتيكية، حيث تكشف الشاعرة عن مشاعر الجرأة، متناولة الجانب الخفي لصورة العلاقة الحميمية لدى المرأة عبر توصيف مشاهد الخصوصية مع الرجل، فتقول: "أضمك كامرأة سيئة، امرأة تفضل من يمزق ثيابها حباً، على من يضع عقداً من الذهب في عنقها".
جلد ناعم
وفي جانب آخر، تراقب الشاعرة ميل المرأة الدائم للشباب ونعومة الجلد، وقلق مداهمة أعراض الشيخوخة للجسد الأنثوي، معبرة عن رغبة تبديل الجلد المترهل، بجلد ناعم طري، تستعيره من أطفال مكومين في رحمها، لم تمس الحياة جلدهم بعد.
كسور
فيما تصنع الشاعرة مفارقة بين كسر مشاعر الإنسان الذي تتوانى الحياة عن فعله، وبين محاولتنا الجاهدة لعدم كسر الأواني ومقتنيات الإنسان، وتظهر كيف كان الأهل يمنعون أطفالهم من التجريب، فقط من أجل حماية المقتنيات، متجاهلين كيف أن هذا المنع، هو كسر لمشاعر داخل الإنسان منذ طفولته: "كلما كبر ميراثي من الكسور، أفكر، لِم لا نكسر نحن الحياة، التي تُعمر أشياؤها التافهة أكثر منا".
رؤية
وتتضح رؤية الشاعرة خلال نصوصها عبر التأمل في اليوميات الصغيرة، فتستخدم مقتنيات الحياة البيتية، والأدوات الاعتيادية للإنسان خلال قصائدها، مبرزة البعد الشعري لوجود هذه الأشياء أو غيابها، معبرة عن حركاتها وأصواتها؛ وتقاطعات ذلك مع الحس الإنساني.
وتميل الشاعرة للغة السلسة المفصلة، معتمدة على مفردات قريبة من يوميات الإنسان العصري، وتمزج وداد نبي ما بين صورها الشعورية وما بين تلك المشاهد الاعتيادية للمرء، لتصنع قصيدة شعرية نثرية ملامسة للمشاعر المشتبكة مع العالم الحديث، وذلك عبر 75 صفحة من القطع المتوسط.
مشاعر النشأة
وتكشف الشاعرة عن صوت الغربة في شِعرها، حيث الابتعاد عن الوطن والأماكن المنغرسة في ذات الإنسان، فمن خلال نص "قصائد بلا بيت" تظهر النزعة البشرية بتقديس الوطن، حال الابتعاد عنه. وتغلب على القصيدة النوستالجيا، ومشاعر خاصة لمكان النشأة، ففي ذهن الشاعرة تعددت الأماكن والطرقات والغابات الوعرة، لكن كلها كانت في مقارنة بالمكان الأول الذي نشأت فيه، فحملت الشاعرة معها حين غادرت وطنها، الحنين، والعشق وحلم العودة، وهو ما رمزت إليه عبر النص، بالنبتة الخضراء، فاستمر نمو الحنين داخلها.
تقول الشاعرة:
"حملت نبتة خضراء في حقيبة يدي،
سافرت معي من مكان إلى آخر،
بقيت تنمو وتنمو،
في الطرقات التي سافرت بها،
المقاهي والمحطات التي عبرتها،
عبر الغابات والدروب الوعرة،
نحن البشر فقط من نتوقف عن النمو،
حين نبتعد عن مسقط رأسنا".
نثر
ويمكن ملاحظة أن بعض القصائد في مجموعة وداد نبي، يغلب عليها النثرية، والاسترسال في الوصف دون الالتفات إلى الطابع الشعري في التوصيف، بميله للتكثيف والصقل، وصناعة الصورة الشعرية الملهمة، كما في نص بصقة الهوية، والذي تعتمد فيه على المشهدية، أكثر من اعتمادها على الصوت والإيقاع الشاعريين، والذيْن يصنعان الفارق في هيكل القصيدة.
لغة تتم رضاعتها مع حليب الأم
وتكتب الشاعرة عن القمع الذي يواجهه الأكراد في سوريا، فمنذ النشأة يرضعون اللغة مع حليب أمهاتهم، لكن يكون عليهم كسر لغتهم، وتعلم اللغة العربية، لغة الدولة، بل وتلقي العقاب حال فشلوا في نطقها.
وتكشف الشاعرة من خلال قصيدتها، المأساة التي يشعر بها المرء جراء القمع والتسلط من الآخر، فيما ترسخ تلك الندوب في الذاكرة، ولا ترحل طيلة العمر، فهي من خلال شعرها، تسترجع لحظة الولادة والوعي الأول، لتزيل الغبار عن صور قديمة، بقيت محفوظة بألمها منذ طفولتها.
تكتب الشاعرة في نص "لغة مكسورة":
"ولدت بلغة مكسورة،
مذاقها مر ولاذع مثل نبتة الحشيش في الحنجرة،
أخبرني ما نفع الحديث بلغة سليمة،
في بلد منعنا ونحن أطفال التلعثم بلغتنا الكردية الأم.
نرضع اللغة من حليب الأمهات،
لكن الدكتاتوريات لم تعِ هذا.
اللغة لا تحتاج لعصاً خشبيةً،
تكسر عظمتيْ يديك الصغيرتين لتنطقها سليمة،
لكن المعلمين هناك لم يفهموا هذا أبداً".