الشعر والرسم.. هل من أرض واحدة تجمعهما؟

الشعر والرسم.. هل من أرض واحدة تجمعهما؟

لطالما كانت العلاقة بين الشعر والفن التشكيلي مثيرة للجدل في الوسط الثقافي، من خلال التداخلات في المعنى والتصوير الذي يتشكل بينهما.

فكلاهما يقوم على استثارة الخيال، والتجريب، من أجل ابتداع مشهد يقوم على حركة الصورة، أو ثباتها، وبالرغم من أن لكل منهما مؤثراته الفنية الخاصة، إلا أنهما يمضيان من أجل صنعة الجمال، وجذب الحواس الإنسانية، والكشف عن المعنى الخفي في الأدوات.

إذ إن للشعر والرسم أرضا واحدة، يمكنهما من خلالها السير بطريقة متوازية، من أجل إطلاق المزيد من المتعة للعالم، أو بهدف إعادة تشكيل الواقع من خلال تلك اللمسة الفنية الخاصة لكل منهما.

روما قصيدة حية

عندما زار الرسام الإسكتلندي الشهير "ويليام دايس" مدينة روما الإيطالية، عام 1825، شاهد بحسه الفني، الرسومات على المباني، وتشكيل الهندسة المعمارية، والدفء الذي يسود الطرق، كان في ذروة اندهاشه، فما كان منه إلا أن قال: "في الحقيقة، كانت روما نوعًا من القصيدة الحية، التي تقرؤها الروح بلا انقطاع، مع الإحساس الهادئ الذي يلهمه الشعر".

هذا العالم الأرضي، مخطط دراسي غير ناجح، وما من فنان حق إلا جعل شغله الشاغل، إعادة رسم هذا المخطط، ومنحه الأسلوب الذي يفتقر إليه.
الفنان الإسكتلندي فان كوخ

هذا الوصف، يعبر عن وسع الرقعة التي يطالها الشعر في الخيال الإنساني، وقدرته على تجسيد الصوت الداخلي، حتى من جانب الفنان التشكيلي، الذي يولي للأداة البصرية المكانة الأولى في مشروعه.

ولم تأتِ لحظة على العالم المتحضر، لم يكن فيها الفن ضرورة مُلحّة يحتاجها الإنسان من أجل تجريد الأشياء من أماكنها، وأخذها كمواد خام، من أجل صناعة عالم جديد، عالم يقوم على تأطير الصورة الجديدة، ومراقبتها من زوايا مختلفة، من أجل فهم الواقع، أو تجميله، أو حتى نقده.

مخطط غير ناجح

وعلى الدوام، لم يكن الواقع في نظر الفنانين والشعراء متقبلا، أو مثيرا للجذب والمتعة، ولطالما أقر الفنان الإسكتلندي فان كوخ بعد أهلية العالم لكونه مكانا للأمان والمتعة، فيقول: "أزداد اقتناعا يوما بعد يوم، أن هذا العالم الأرضي، مخطط دراسي غير ناجح، وما من فنان حق إلا جعل شغله الشاغل، إعادة رسم هذا المخطط، ومنحه الأسلوب الذي يفتقر إليه".

كل من الشعر والرسم، يقومان في الأساس على المحاكاة للنفس البشرية، وأن لكل منهما طريقة فنية في التعبير والإيغال في الإنسان.
الفيلسوف اليوناني أرسطو

وفي تلك الوجهة نفسها يرى الشاعر العالم، حيث يتخلى عن كافة القوالب المتاحة داخله، ويهرب إلى المكان الأكثر وسعًا، ويتخذ من خلاله دولة الشعر، التي تمكنه من رؤية العالم بشكل يمكن تقبله، وهذا ما ذهب إليه الشاعر السوري نزار قباني حينما قال: "بعض الذين يأتون في الحلم، يستحقون حفاوة أكثر من الذين يأتون في الواقع".

الإغريق

وإن أقدم ربط يمكن طرحه بين الشعر والفن التشكيلي، كان من خلال الشاعر الإغريقي "سيمنوديس" في القرن الخامس قبل الميلاد، فقد قال: إن الشعر صورة ناطقة، وإن الرسم شعر صامت".

وقد كرر الناقد الروماني "هوراس فلاكس" هذه الجملة في كتابه "فن الشعر" في السنة العاشرة قبل الميلاد، والذي اعتمد لوقت طويل في الدراسات حول الفن.

ولا يمكن إغفال، اعتبار الفيلسوف اليوناني أرسطو، أن كلا من الشعر والرسم، يقومان في الأساس على المحاكاة للنفس البشرية، وأن لكل منهما طريقة فنية في التعبير والإيغال في الإنسان.

القدرة عند الشاعر في التجسيم، وتجريد المشاهد، وبثها عبر اللغة، هي بمثابة إطلاق لوحة فنية للعالم.
الكاتب العربي الجاحظ

الرسام شاعر

وفي عصر النهضة اتفق الجميع على مقولة: "ما يكون على الشعر يكون على الرسم". وسيطرت الوجهة نحو اعتبار الشعراء أعظم الرسامين، فبعد أن وصف الكاتب الإغريقي "لوكيان"، شاعر الإغريق الأعظم هوميروس، بأنه رسام عظيم، درجت صفة الرسام على الشعراء من بعدها، فنالها العديد، مثل سبنسر، فيريجيل، شكسبير، وثوراكواتو"، عن اعتبار الفيلسوف اليوناني أرسطو، أن كلا من الشعر والرسم، يقومان في الأساس على المحاكاة للنفس البشرية، وأن لكل منهما طريقة فنية في التعبير والإيغال في الإنسان.

الشعر صناعة

ورأى الكاتب العربي الجاحظ، أن "الشعر صناعة، وهو ضرب من النسيج، وجنس من التصوير"، وفي رؤيته يتضح اعتباره الصورة في الشعر صناعة كما في الرسم، فيقوم الخيال بنسج خيوط المشهد وحياكته والفارق أن أداة التشكيل في الشعر هي اللغة، وأداة التشكيل في الرسم هي الألوان والظلال.

لقد اعتبر الجاحظ أن القدرة عند الشاعر في التجسيم، وتجريد المشاهد، وبثها عبر اللغة، هي بمثابة إطلاق لوحة فنية للعالم.

ترجمة الصورة شعريا

وقد أتت إقرارات في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، من النقاد والفنانين، بقدرة الشاعر على الرسم، وقدرة الرسام على كتابة الشعر، إلى حد أن أديب الرومنطيقية وناقدها الألماني "أوجست فيلهيلهم شيغل" قد نادى إلى ترجمة الصورة شعريا، وقد قام بكتابة السوناتات، التي عززت من العلاقة ما بين الشعر والرسم في تلك الآونة، وكذلك تطوير قصيدة الصورة.

تغيرت الكثير من الأدوات البصرية والفنية، وزادت التكنولوجيا من جنون الفن والشعر، لكن العلاقة ما بين الشعر والرسم بقيت متداخلة.

كاميرا

وفي عام 1800، أدى اختراع الكاميرا من قبل الفرنسي لويس داجيز، إلى تغير طريقة التعاطي الفنية مع المشاهد، فابتعد الرسامون عن الرسم الواقعي المجسد للشخصية والملامح، واعتبر رسم البورتريه بأنه استنساخ للواقع، تقوم به آلة التصوير الحديثة.

مدارس فنية

وهذا ما مهد للمزيد من التقارب بين الشعر والرسم، فانطلقت المدارس الفنية والأدبية، معبرة عن كسر الجمود والمحاكاة التقليدية للأشياء وانطلق العالم نحو تحرير الفكرة، من أصولها، وهو ما أتاح للدمج بين الشعر والرسم، واعتبرت العوامل المشتركة بينهما من حيث البنية والأفكار والرموز، مساحة للالتقاء، فتحت الباب أمام المزيد من التجريب الإنساني، فظهرت المدرسة التعبيرية، والمستقبلية، والرمزية، الدادئية، والانطباعية، والسريالية، وغيرها من المدارس آنذاك.

أخبار ذات صلة
تجديد النظر في «الثقافة الإسلامية»

وفي عصر ما بعد الحداثة، تغيرت الكثير من الأدوات البصرية والفنية، وزادت التكنولوجيا من جنون الفن والشعر، لكن العلاقة ما بين الشعر والرسم بقيت متداخلة، وقد شوهدت العديد من اللوحات في المعارض الفنية، يدمج معها مقولة شعرية تلخص اللوحة في شذرة شعرية، أو قصيدة، وهو ما ينتقده البعض ويعتبره بأنه حصر لخيال الجمهور، وتحجيم له.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com