مع ظهور الأدوات التكنولوجية، والتطورات الملازمة لها في الواقع، ظهر في دول الخليج العربي نسق مغاير من الشعر، خلال العقد الماضي، مقدمًا تجارب جديدة مع الحواس واللغة، وأفكارًا تجديدية في الشكل والبناء والأسلوب والموضوعات.
هذه التجربة الشابة، تقدم حالات شعرية متباينة تبعًا للظروف الاقتصادية والاجتماعية والأمنية لهولاء الشعراء.
عدد لا بأس به من المجرّبين الشباب في المشروع الشعري، جسدوا مرحلة جديدة في المنتج الشعري العربي، المنفتح على كافة الأساليب والأشكال الشعرية العالمية.
وجسد ظهورهم لربما، مرحلة جديدة من التجريب الشعري، لربما لم تكتمل ملامحها بعد، لكن سيظهر أثرها في المستقبل.
وهنا نسلط الضوء على بعض من هذه التجارب، على سبيل المثال لا الحصر.
من الإمارات، ظهر عبد الرحمن الحميري، وهو شاعر شاب، نجح بلفت انتباه القراء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من خلال منشوراته اليومية، وتمكن من طباعة مجموعته الشعرية الأولى العام 2019.
ومن الواضح في طريقة الحميري امتلاك الرؤية، بالإضافة للجرأة في التجريب، عبر تكسير الأنماط والقوالب في تركيب الصورة الفنية، كذلك القناعات.
ويعمد الحميري في نصه، إلى اتباع التفلسف والتلميح، وهما أمران ضروريان في الشعر، ويتبع رسم المشهدية الشعرية من خلال جمله التي تميل إلى الشاعرية، تكثيفًا حينًا ونثرًا في حين آخر.
ويعتمد المفارقات الفنية خلال صوره التي تلعب لعبة الصدمة مع الحواس، وتزيد من حالة التوتر، بهدف طرق الباب الشعوري داخل أعصاب القارئ.
ودومًا في قصيدة الحميري هناك دهشة مصنوعة بحرفية، تشتبك مع الخيال الإنساني، وتسترجع مشهد قديم، من الذاكرة.
ويميل الحميري إلى تبسيط اللغة واستخدام الكلمات السلسة، مع تحفيز الأفكار الصعبة، الوجودية منها والذاتية داخل الوعي.
ومن نصوص مجموعته:
«هناك شخص وحيد،
تعمد ألا يبتسم في الصورة الجماعية،
ثم بعد عشرين عامًا، يعرف أنه كان على حق،
فهو الآن،
يتأمل عبوسه في الصورة،
دون أن يقول في نفسه،
أحن للأيام التي كنت فيها سعيدا».
وقدمت الكويت الشاعرة هدى أشكناني، الحائزة على جائزة أصوات من العالم من إيطاليا 2012، وجائزة الشعر الأولى من جامعة الكويت 2006، وأصدرت مجموعتين شعريتين هما: في"سماء تبحث عن غطاء" و"باب للحب ..بابان للألم".
وتتميز لغة أشكناني بالتكثيف الشديد، فجملتها الشعرية دون فراغات دون حشو، وتمضي خلال القصيدة كأنها سلاسل مترابطة.
ويتسم نص الشاعرة بكثرة الأسئلة الوجودية، والذاتية واشتباكات ذلك مع الواقع.
كما يتطرق نصها إلى منطقة الشك بكافة القناعات، وتحليلها واستثارة المشاعر المترتبة عليه، عبر الإغراق في التأمل والتفكير.
واللعبة الشعرية عند أشكناني تدور عبر التناقضات والإيحاءات المتكررة خلال نصوصها، ودومًا تذهب إلى رسم الحادثة الشاعرية، وإهمالها، عبر اهتمامها بالتفاصيل حول ذلك.
تقول هدى في مجموعتها الأخيرة:
"إلى التي لا تتوقف عن التهام أبنائها..
إلى الأرض:
هذا جسد ميت،
أنجبته في عالم شرير
كانت الأشجار وقتها قليلة الضوء
لم يكن ثمة أمل في الاستدلال
فالمدن الكبيرة تشبه بعضها في الضياع.
ولأنك قررتِ ألّا يضلّ الطريق
بدأت بالامتلاء به من جديد
أيتها الأم المسكينة..
لكِ في الحياة،
ما لها عليك».
وظهر من السعودية، الشاعر على عكور، الذي يمتلك جمهورًا متحفزًا لكتاباته، على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد نجح بطباعة 3 مجموعات هما: "سيرة الأشياء" 2011، و"كانتصار صغير للبرق والرعشة" 2020/ و"بريد لأشجار أيلول"2021. ونشرت قصائده في العديد من المنصات العربية.
ويمتلك "عكور" لغة شاعرية مكثفة شديدة التماسك، ويستطيع أن يصنع الصدمة الشعرية مع الوعي الإنساني، من خلال البناء الشعري المتين للنص، فيمضي نصه بتجربة فكرية تأملية ثاقبة، معتمدًا على الخاتمة الشيقة والمفاجئة، بما يكفي ليحدث الأثر.
وجميع الأشياء عند "عكور" قابلة للاختبار، عبر اللغة الشعرية، والموضوعات المستقاة من الطبيعة والأحداث من حوله، فيتمكن من تفكيك الأحداث وإعادة تجميعها ضمن النص، عبر تثبيتها وتحريكها، مقدمًا حراكًا فكريًا ولغويًا مثيرًا.
وفي نصوص عكور تبرز الأصوات والحركات والإيقاعات التي تمضي من خلالها الطبيعة، محملًا القارئ صورًا مغايرة للمعنى، عبر التبديل والتغيير والتسريع والتبطيء في الإيقاع والحركات للأشياء، دامجًا إياها في نطاق حركة الإنسان.
ويتبع الشاعر السعودي، طرقًا مختلفة في صدم القارئ عبر التشبيهات الفنية والاستعارات الداخلية للنص، مبرزًا دور المفارقة في ذلك.
ومن نصوصه:
”لا شك أن الأشجار القريبة من بعضها، التي تتشابك أغصانها وظلالها، لا بد أنها أصوات عائلة قضت إثر غارة جوية، ها هي تنبت الآن لتكمل حديثها الدافئ“.
ومن العراق، برز الشاعر عامر الطيب، من خلال نشره المستمر على مواقع التواصل، وجسده لجمهور واسع، عبر نصوصه اللافتة والمثيرة للجدل.
وجسد ظهوره مع مجموعة أخرى من شعراء العراق الشباب فترة الحرب، ككاظم خنجر، وميثم راضي، وغيرهم، معبرين عن ثورة شعرية تخترق كافة الحواجز نحو تحرير الإنسان من الدم والدمار.
وصدر للطيب 4 مجموعات شعرية، هي:"أكثر من موت بإصبع واحدة" 2017، "يقف وحيدًا كشجرتين" 2018، ومجموعتي"صورة من الخلف للرقم ٩"، و"البقية في حياة شخص آخر" 2020.
ويبحث الطيب في نصوصه عن أولئك العابرين، المارين خارج السياق، من يمتلكون صفاتهم الخاصة، والذين لا يراهم العامة، فيكتب عنهم وعن تفاصيلهم، التي يرى في عاديتها الشعر، والمعنى الخارج عن المألوف.
ويجمع الطيب في نصه بين الحالة الممكنة والحالة المستحيلة، عبر خلق التناقضات والحالة الرمادية بينهما، مشددًا على اكتساب وافتقار وعي الإنسان للحالات المتباينة، عبر التجربة والتلميح اللغوي المفاجئ.
وتتميز لغة عامر الطيب بالبساطة والقدرة على المحاكاة من خلال نصه المختلط ما بين السرد والتكثيف، مجسدًا قدرته على ربط المفاهيم ونثرها، ليتحقق المنظور الشعري، دون إبهام أو تضارب في المعنى.
ويستهدف الطيب العلاقة بين الرجل والمرأة في الكثير من نصوصه، متبعًا التحليل والسخرية في تناقضات الصفات بينهما.
ويظهر في نصوصه التجربة الذاتية للإنسان مع الحب والخذلان والألم، وكذلك تجاربة المرء مع الحروب المتكررة، والصراعات الإنسانية.
من نصوصه:
”من تشابك الأصابع،
تعلم الإنسان أن يصنع نافذة.
من ضمها لبعض،
تعلم أن يصنع جدارًا.
من ضمها بشكل متساوٍ،
تعلم الإنسان أن يبني سجنًا!“.
وظهرت في البحرين الشاعرة بتول حميد، معززة حضورها في المشهد البحريني، عبر تفاعلات الجمهور والنقاد مع نصوصها.
وأصدرت حميد مجموعتها الشعرية الأولى "أتسوّل الحياة بوجه مكشوف" 2019.
وما يميز بتول حميد اللغة والحوار الداخلي للنص، والإحالات التي ترمي بها داخل جملتها الشعرية، وتتمكن من التقاط الحدث المهمل من الواقع، لتحويله إلى حالة شعرية جهورية، عبر المراوغة الشعرية المحسوبة.
وتتميز لغتها بالسهولة والجزالة الفنية للمعنى، دون الإفراط في الوصف وتركيب الكلمات، فجملها تميل للاختصار، وكأن ما بينها من حشو محذوف، وهو مطلب من مطالب الشعر المؤثر.
والتجريب عند "حميد" يكون في الأفكار المسكوت عنها في المجتمع العربي، معبرة عن مطمع المرأة العربية في المزيد من فكفكة السلاسل والقيود من حولها.
وتبرز القيمة الفنية للتكثيف اللغوي والإيقاع داخل نصوصها، عبر إحداث دهشة معنوية، في نهايات الأسطر الشعرية لنصها.
تكتب الشاعرة:
"امرأة تقيس ذكرياتها، وهي تتسوق في متجر نسائي متواضع.. تكوّم أيامًا على الأرض، لتشتري ابتسامة واحدة، أمام مرآة عريضة“.