الهايكو العربي.. تجريب وفوضى دون معرفة أصول كتابته
الهايكو العربي.. تجريب وفوضى دون معرفة أصول كتابتهالهايكو العربي.. تجريب وفوضى دون معرفة أصول كتابته

الهايكو العربي.. تجريب وفوضى دون معرفة أصول كتابته

تميز الهايكو الياباني بهويته الخاصة منذ نشأته على يد الرهبان الثلاثة "باشو - بوسون - إيسا" قبل أكثر من خمسة قرون.

ومن خلال توحد الإنسان بالطبيعة والارتقاء بها، بدعوة خالصة لحب الأشياء، جاءت أهمية الهايكو الياباني، وأسهم ذلك في انتشاره للعالمية.

وخلال ستينيات القرن الماضي، تمكن الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة، من نقل التجربة اليابانية للوطن العربي، فكان رائدها، وتبعه العديد من الشعراء بعد ذلك، وكان أبرزهم الشاعر السوري نزار قباني، وفي العصر الحديث يتميز الهايكست المغربي سامح درويش.

وبعض النقاد يتهم الشعراء العرب بانزوائهم في زاوية غريبة عليهم، في وصف توجه الكثير منهم نحو الهايكو الياباني، مع عدم تلبية متطلبات هذا النمط من الكتابة، وقد يكون هنالك مرونة في تشكيلات اللغة، والتحرر من القوالب، لكنهم يؤكدون على الهايكست التزام مصاحبة الطبيعة.

ويرى العديد من النقاد، ومن أبرزهم العراقي عذاب الركابي، أن هذا الأمر لا يدين الشاعر العربي، فمن الطبيعي أن لكل كاتب بيئته الخاصة، معاييره اللغوية التي تحتم عليه الانصياع لها، حتى لو أراد نقل الهايكو وتطبيقه على اللغة كما هو، فلن يكون هذا ممكنًا بشكل مطلق.

يكتب الناقد عذاب الركابي: "ما دام لكل شاعر أيضاً ظروفه وبيئته، فهذا الاختلاف التقني لا يسيء أبداً لهذا الفن العظيم".

تليغراف

ويتميز الهايكو بكونه رسالة تلغرافية مقتضبة، تلعب على اللحظة اللامعة، لتثير الأفكار المتعددة داخل الإنسان.

ويتحقق هذا من خلال الوخز الناجم عن تكثيف اللغة، والإيقاع الهادئ، الذي تمضي عليه الكلمات، وكذلك تتجسد الموسيقى الداخلية داخل النص، لتسيطر على حواس المرء في صحبة الهايكو.

ويجس الهايكو نبض القارئ، بنوع من الضحك والمداعبة، من خلال الهمس والتلميح والإشارة.
كما يميل الهايكو لجعل الطبيعة في قمة وجودها، من خلال إكسابها الحواس، ومنحها الأنسنة بالحديث والتواصل مع الأشياء.

عقيدة الزن

ولقد وقع الكثير من الشعراء العرب في مأزق الحداثة التي فتحت الباب أمام العديد من التغييرات في كافة الفنون، والكثير من الأشكال الإبداعية تقبل هذا، كتغيير الشكل في القصيدة الشعرية العربية، من الوزن والقافية إلى قصيدة النثر، لكن في جانب الهايكو هنالك خصوصية في المحتوى، كما يرى النقاد، بأنه يعتمد على عقيدة الزن "Zen" في الكتابة، أي التماهي والانغماس بالطبيعة وأصواتها، وليس فقط التأمل، بما في ذلك السمو عن الأنا والذات والجسد.

تركيب الهايكو

يكتب الناقد العراقي عذاب الركابي مقدمة كتابه "ما يقولهُ الربيع":
"قصائد (الهايكو العربي) ليست صدى لآهاتِ شعراء (الهايكو الياباني) الكبار أمثال: (باشو ، بوسون ، إيسا)، لكنها بسرعةِ وعمقِ عباراتِهم (التلغرافية) الموحية، اختلفت الهمومُ والأحلامُ والرؤى، ولكن الأسلوب التشكيلي، بريشة الطبيعة واحدٌ، اختلف المكان والزمان والمعالجة، ولكن مكونات وظواهر ومفردات الطبيعة هي نسق القصيدة وكيمياؤها".

فأصوات الضفادع والغزلان والطيور وحفيف الشجر، وخرير الماء، لابد أن تكون ذاتًا حقيقية، يراها الهايكست أمامه، ويحاكيها، ويلامسها، حتى يخرج بصوت جديد، وعلاقة جديدة بين الإنسان والعالم.
يكتب الهايكست الياباني تانيغوشي بوسون أحد أهم مؤسسي الهايكو الياباني قبل خمسمئة عام:

"أنا لم أدخل
غير أني وقفتُ
بإجلالٍ
على معبد أوراق الخريف”.

تعدٍ

وما طرأ على الهايكو الحداثي العربي حديثًا، أن الكثير من الشعراء، قاموا بزيادة رقعة محتواه نحو الذات الإنسانية والسياسة، وهو ما يخرج المنتج من دائرة الهايكو فورًا ويجعله في نطاق الومضة الشعرية المكثفة، أو أحد الفنون الكتابية الأخرى.

فمثلًا يكتب الهايكست العراقي رضا أبو طاهر:

على قارعةِ الليل
يطرد النومَ
ويتحسّر عليه
حارس

كلّ شهرٍ تثبّت
على جدارِ غرفةٍ
في بيتِ إيجارٍ مغاير
صورة شهيد

بلا سياج بيته
حارسُ حدود الوطن

لمشكلةٍ في حنجرته
لا أحد يقرأ قصيدته
شاعرُ صراخ

ترى كلّ الطرق كمائن
عين التائه".

أما الفلسطينية قمر عبد الرحمن فتكتب:
"ليست مواساة؛
وجعٌ فوق وجع
-سنّة الحياة-

فيضٌ من الوجع-
الحرمان والاشتياق؛
في هذا الوطن".

وحتى الهايكست سامح درويش، وهو من أشهر كاتبي الهايكو العربي الحديث يقع في نفس الإشكالية، فيكتب:
"دارَ في صدْري حبٌّ ضَرُوس،
فها أنا في عزّ خرابي
أحبّ،
وأحبّ .. حتّى الرمق الأخير".

محسنات بديعية

ويلاحظ ميل الهايكست العربي لتعميق صوت الهايكو، من خلال إدخال المحسنات البديعية، والجزالة اللغوية خلال الوصف، وهو ما لا يتوافق مع رؤية الهايكو، فمبدأ عمله يقوم على البساطة ويتخذ نهج التلميح والإشارة للمعنى دون التوصيف أو التجزيل اللغوي. وهو ما كان "بوسون" دومًا ينادي إليه عبر استخدام اللغة المألوفة.

فالهايكو المتعدد المعاني والتلميحات، ينجح في إنشاء علاقة ربط مع الإنسان الآخر والطبيعة والعالم، لكن دون مجاز، فمثلًا يكتب ريوكان:

"مطرٌ ربيعيّ
أمرّرُ يدي بلطفٍ
على اليقطينة".
فتتم البساطة والتلقائية، عبر المجاز المخبئ بين الكلمات، غير الظاهر، وغير المتكلف، وهو يعمل مثل طريق غير مباشرة.

يقول هنري برونيل في هذا الإطار ضمن كتابه أجمل حكايات الزن: "لا مجال فيها للتوقدات، والتصادمات الكبيرة للصور، ولا للصراخات والموت والدم".

الهايكو، هذا النوع من الإبداع، يتطلب دراسة وافية لأصوله، وخوض في جوهره، حتى يتمكن الشاعر من الانخراط فيه، أما كتابته عن جهل، أو عدم دراية كافية، فتؤدي لتشويه تكوينه، أو إلغاء هويته كاملة، ولابد أن الهايكو الياباني قد نال هذه المكانة الرفيعة في العالم، لأنه اختص بحب الطبيعة وجعل الإنسان أقرب منها، بتفصيلها عن ذاته، وأي تجريب خارج هذا الإطار لا يعتبر تجديدًا، أو تغييرًا بل هو عبث ولهو.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com