د. أحمد بن قاسم الغامدي
د. أحمد بن قاسم الغامدي

عصمة الأنبياء (1)

جاءت الرسل تدعو الخلق لتهذيب النفوس وتزكيتها بالأخلاق الفاضلة والأعمال النافعة، ولا يرتقي الإنسان إلا بمجموع ما يندرج في هذين النوعين من التكاليف.

لم يختلف على أن الرسل قد عصمهم الله لتبليغ رسالات الله لخلقه كما بلغوا بها، إذ الرسالات هي مراد الله من خلقه، وقد أوجب الله على الرسل بيان الرسالات، وتلك هي مهمتهم التي كلفوا بها، قال تعالى: (ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرًا مقدورًا الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله وكفى بالله حسيبًا)، وقال تعالى: (وما على الرسول إلا البلاغ المبين)، وكذلك أمر خاتم الرسل بقوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين)..

ليس للرسل إلا تبليغ الرسالات دون زيادة أو نقص فيها، قال تعالى: (ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين)، وهكذا كان الوحي للأنبياء من قبلُ قال تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده)، فقد خص الله من اصطفاهم من الأنبياء والرسل بتبليغ رسالاته، ووهبهم أعلى مراتب الايمان والعلم والعمل ليحققوا امتثال ما أمروا به على أتم وجه وتستقيم جوارحهم وتعلو منزلتهم بفعل الطاعات وترك المحرمات، ليكونوا أسوة للخلق..

ولذلك قال الله: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، وقال النبي:(إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا...)، وإنما خالف من خالف في القول بعدم عصمتهم من الذنوب لما اشتبه عليهم من إشارة بعض الآيات والأحاديث لذلك بشكل غير صريح وسيأتي الكلام عن ذلك.

والحق أن عصمة الأنبياء ثابتة بالعقل والنقل، أما عقلا فلأن عصمة الأنبياء مثال حي واضح على كونهم القدوة للناس فيما يبلغونه، وأن السعي نحو الكمال الإنساني في مقدور عموم الخلق، فالرسل جاءت بامتثال ما أمر الله به، وبيان الإيمان والمعتقدات التي تنقي العقول وتجنبها عبودية المظاهر وما لا يدرك البشر علته ولا يحيط بحكمته من مظاهر الكون التي سخرها الله للإنسان للانتفاع بها والتصرف فيها، إلا أن ما في الإنسان من ضعف قد يستميل الخلق لعبادتها من دون الله.

أخبار ذات صلة
التعددية والتكامل في الإسلام

كما جاءت الرسل تدعو الخلق لتهذيب النفوس وتزكيتها بالأخلاق الفاضلة والأعمال النافعة، ولا يرتقي الإنسان إلا بمجموع ما يندرج في هذين النوعين من التكاليف، وبارتقاء الإنسان يتحقق ما أراد الله من الاستخلاف الراشد للإنسان بعبادة الله وعمارة الأرض، وتلك غاية سعادته في هذه الحياة الدنيا التي تستتبع سعادته في الآخرة الباقية التي جعلت هذه الحياة مزرعة لها كما ثبت. وكل ذلك يعتمد بيانه على صدق الخبر وحسن الأسوة بالمخبر؛ لأن التربية بالقدوة، وإنما جاء التعليم القولي كمؤسس للتأسي بالرسل.

ولا تحصل الثقة القطعية بصدق الخبر إلا إذا كان المخبر معصومًا من الكذب والخطأ في التبليغ، كما لا تتم القدوة وتحسن الأسوة إلا إذا كان المقتدى به منزهًا عن النقائص، منتهيًا عما ينهى عنه، مؤتمرًا بما يأمر به، متخلقًا بما يرغب الناس في التخلق به، وبهذا يثبت أنه لا تتم حكمة الله في إرسال الرسل إلا إذا كانوا كما ذكرنا من الصدق والنزاهة.

والحكمة واجبة لله تعالى وجوب كمال، فوجب أن يكون الأنبياء المبلغون عنه سبحانه صادقين معصومين، ولا يلزم من هذا وجوب شيء على الله، وإنما إيجاب الحكمة لله كمال كإيجاب العلم والقدرة وغير ذلك من صفات الكمال.

أما الدليل النقلي على عصمتهم فثابت بنصوص الوحي، فالله تعالى لم يرسل الرسل إلا ليُتبعوا ويُقتدى بهم، ولذلك أمر الله باتباعهم كما في قوله: (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأُمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون)، ولو كان الرسل يخالفون ما أتوا به من الهدى للزم من ذلك أن يكون الله آمرًا بالشيء ناهيًا عنه في آن واحد، وهذا مُحال على الله، ولو فعل الرسل فاحشة لكان الله آمرًا بها من حيث كونه أمر باتباعهم أمر تشريع، وأمر بالتأسي بهم أمر تكوين بأن أودع ذلك في فطرة الإنسان، وهذا مستحيل عقلا ونقلا قال تعالى: (إن الله لا يأمر بالفحشاء)، كما أن الطاعات مما أمر الله تعالى بها الرسل، فلو فُرض أن الرسل يرتكبون المعاصي لكان معنى ذلك أن عصيانهم ذلك طاعات، وذلك تناقض لا يقول به عاقل .

وقد عارض البعض هذا بأن القرآن يثبت الذنوب للأنبياء والمرسلين إجمالا وتفصيلا.

أما الإجمال ففي قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) وفي قوله: (واستغفر لذنبك) وفي قوله:(فسبح بحمد ربك واستغفره) وأما التفصيل ففي قوله: (وعصى آدم ربه فغوى)، وكما في قصة داود وسليمان عليهما السلام وقصة إخوة يوسف، وفي الصحيحين عن أبي موسى قال: كان رسول الله يدعو: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيءٍ قدير).

وسيأتي الجواب عن ذلك في المقال القادم إن شاء الله. 

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com