التعددية والتكامل في الإسلام

التعددية والتكامل في الإسلام

أسس رسول الله نظامًا عامًّا حين استقر في المدينة، أساسه التعايش السلمي، هو اليوم يسمى بالمواطنة.

كان للإسلام الأسبقية في تأسيس التعايش السلمي، وإرساء قيم الحوار في المجتمعات المتعددة، ففي أول الإسلام وزمن النبوة أرشد رسول الله أصحابه للهجرة إلى الحبشة فرارًا بدينهم من إيذاء المشركين لهم، لأن فيها ملكًا عادلًا لا يُظلم عنده أحد، فهاجر إليها عدد من الصحابة وكانوا بهذا يمثلون النموذج الحضاري الأول للمسلمين في التعايش السلمي مع الآخر في بلدانهم..

ولم يذكر أن المسلمين أثاروا فيها الفتن، أو سعوا بالثورات والتحريض على أهلها، أو أججوا الكراهية والعداء فيها. ثم أسس رسول الله بعد الهجرة للمدينة أعظم تجربة عملية تؤكد هذه الحقيقة، فلم يلغ رسول الله تعددية المجتمع فيها، ولم يعمل على طمس خصوصيات فئاته ومكوناته، وإنما عمل على بناء نظام سياسي وإداري وقانوني متكامل يحفظ خصوصيات الجميع ووحدته، ويزيل عناصر الجفاء والتوتر بينها، ويعمل على بناء اجتماعي متوافق يحترم التنوع في سبيل بناء وحدة صلبة.

فكتبت حينها مدونة المدينة المشهورة بـ "صحيفة المدينة"، وكانت هي الوثيقة النبوية التي تؤكد شرعية هذا الخيار وصحته، وتؤسس لبناء الوحدة الاجتماعية بكل ما فيه من أطياف وتعددية، ولم تتخذ من قوة السلطة بيد المسلمين ذريعة لطمس الآخر أو هضم حقوقه، بل شرع الوفاء فيها بالعهد واحترام المخالف وحمايته.

لقد أسس رسول الله نظاما عاما حين استقر في المدينة، أساسه التعايش السلمي، هو اليوم يسمى بالمواطنة. لقد أقر الإسلام هذه المفاهيم وعمل بها منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، وتعامل رسول الله مع  مزيج إنساني متنوع من حيث العقيدة، والانتماء القبلي والعشائري، ونمط المعيشة، فكان فيه المسلمون من المهاجرين من قريش، والمسلمون من الأنصار من قبائل المدينة، والوثنيون، واليهود من الأوس والخزرج، وقبائل اليهود الثلاث، بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، والأعراب الذين يساكنون أهل يثرب، والموالي، والعبيد، وغيرهم من الطوائف والأقليات المختلفة..

الإسلام لا يقوم على الإكراه والقهر والظلم، بل جاء يؤسس للعدل والحرية وحفظ كرامة الإنسان.

وعاملهم المسلمون بالعدل والإحسان عملا بقول الله: "لا ينهاكم اللّه عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديارِكم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين"، فبيّن الله بهذا المنهج الرباني أن الإسلام لا يمنع التعايش مع المختلف المسالم ومعاملته بالعدل والبر، بل كان ذلك جزءا من تشريعات الإسلام المؤثرة في القيم والسلوك والأفعال..

فأحكام الدين الإسلامي منظومة شاملة متوازنة عامة تحقق الوعي الفكري والسلوك الإيجابي مع المختلف المسالم في المجتمع. ولقد امتثل رسول الله وأصحابه تطبيق ذلك بشكل عملي، وليس مجرد شعارات تردد، بل كانت سلوكا يقتدى به ويحتذى، فقد تعامل مع كل الطوائف، وفي كل الظروف، كالسلم والحرب، والوفاء والغدر، والنصر والهزيمة، وحال القوة والضعف، ووقت الغنى والفقر..

أظهر المسلمون ما يحمله الدين الإسلامي من أحكام عادلة عظيمة حضارية، مؤثرة في أفكار وسلوك المجتمع ووعيه للتعايش السلمي، والتحلي بأحكام وآداب العدل والبر والإحسان في العلاقات الإنسانية التي غيرت وجه التاريخ الأخلاقي بين الأمم، وحق لهم ذلك الفخر، فقد كان الأسوة لهم في ذلك محمد رسول الله الذي وصفه الله بقوله: "وإنك لعلى خلق عظيم".       

لقد قدمت الحضارة الإسلامية خلال تاريخها السياسي نماذج إنسانية حضارية رائعة، تثبت أن ثقافة التعايش السلمي مع المختلف في المجتمعات المسلمة وفي بلاد المسلمين مقرر في الشريعة الإسلامية، بينت فيه كيفية بناء العلاقات الإنسانية في الأمم، وأظهرت الإيمان بقيم الحرية وأثرها في الإيمان والعبادة وأثرها في فضيلة الصدق في المجتمعات، والإيمان بأن قوة الحق ذاتية في ديننا، وامتلأت النفوس بثقة المسلمين في هذا الدين وعظمته، وأنه رحمة للعالمين وبوابة للخير والصلاح الإنساني للجميع.  

كل هذا كان يؤكد أن الإسلام لا يقوم على الإكراه والقهر والظلم، بل جاء يؤسس للعدل والحرية وحفظ كرامة الإنسان، فهو يحفظ للمخالفين حقهم في حرية الاعتقاد، والالتزام بشرائعهم، ويأمر بالعدل والإحسان معهم، ويحفظ دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وحقهم في التكافل الاجتماعي والإحسان إليهم وإلى فقرائهم.

الإسلام دين عالمي يعترف بالآخر ويقرر حق التعايش السلمي مع المسالم منهم، ويشرع معه الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن.

إن الإسلام دين عالمي رباني الرسالة، وهو خاتم الرسالات، جاء مهيمنا على ما سبقه ومتمما لمكارم الأخلاق، وفيه ما يناسب جميع الأحوال والظروف والجوانب، فهو شريعة شاملة كاملة متوازنة تسعى إلى صلاح الإنسان. ولقد كان امتثال الرسول وأصحابه له بما تلقوه من تربية نبوية أنموذجًا فريدًا في التاريخ الإنساني.

فالإسلام كان آخر الأديان السماوية وخاتمها، جاء متمما للمكارم، موافقا للفطرة السوية، لا يخالف صريح العقل، ولا يناقض العلم، ولا يصادم الحس، ولا يعارض المصالح المعتبرة في الإنسانية، يؤسس لسعادة البشرية في الدارين، فكلهم عباد الله وهو خالقهم، يعلم ما يصلحهم، كما قال: "إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل". والآية تشير إلى أن الإسلام دين عالمي، رسالته ومنهجه وشريعته موجهة للعموم رغم كل التباين في ألوانهم، وأجناسهم، وأوطانهم وعقائدهم وثقافاتهم. قال تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، وقال: "وأرسلناك للناس رسولا وكفى باللّه شهيدا".

وقال رسول الله: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأيما رجل من أُمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة". أخرجه البخاري.

ولو لم تكن رسالة محمد عالمية لاحتاج الأمر إلى رسالة سماوية أخرى، كما جرى في الأقوام السابقة، ولكنها عالمية خاتمة، وهذا محسوم بقوله تعالى: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول اللّه وخاتم النبيين وكان اللّه بكل شيء عليما"، وقال تعالى: "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا ولكن أكثر الناس لا يعلمون"، فجاء الخطاب في الإسلام صريحًا وواضحًا، وموجهًا إلى الناس كافة، يتضمن محركات الإنسانية التي تستند إلى القيم والمبادئ والعلاقات والتعاملات الإنسانية بأنواعها، قال تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون".

كل هذا يؤكد عالمية الإسلام، واعترافه بالآخر، وأنه يقرر حق التعايش السلمي مع المسالم منهم، ويشرع معه الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، بغير إكراه ولا إقصاء، فهو شريعة ربانية عالمية إنسانية تتميز بالكمال والشمول والتوازن مادة وروحًا، وليست من وضع البشر يعتريها القصور أو يطغى فيها جانب على آخر، أو تسير وفق المطامع الشخصية والهوى والشهوات الدنيوية.

أخبار ذات صلة
القس الأمريكي الشهير هيلاريون هيجي يعتنق الإسلام

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com