يا لحكمة التاريخ!

يا لحكمة التاريخ!

بعض قادة الاحتجاج يحاولون بإخلاص إشراك المواطنين العرب في إسرائيل بالمظاهرات ويطلبون منهم إرسال خطباء يتكلمون من على المنصة، حتى يسمعوا صوتا آخر ويوضحوا روايتهم.. لعلها تكون نقطة ضوء مشعة وسط الظلام.

على هامش المظاهرات الإسرائيلية الضخمة احتجاجاً على خطة حكومة بنيامين نتنياهو للانقلاب على منظومة الحكم وإضعاف الجهاز القضائي، يحصل مشهد مدهش يتعلق بحكم التاريخ وحكمه..

فالشرطة، محكومة بتعليمات وزيرها الجديد إيتمار بن غفير، أرسلت قواتها للبطش بالمتظاهرين (اليهود طبعا)، فهاجمتهم بمختلف أساليب القمع والتنكيل، فاعتقلت العشرات واستخدمت الخيالة وخراطيم المياه، وأطلقت قنابل صوتية صادمة باتجاه المتظاهرين، واعتدت عليهم بالضرب المبرح وأصابت العديدين منهم، وأحدهم أصابته القنبلة الصوتية برأسه فقطعت أذنه وسالت دماؤه على الأرض، ووثقت الكاميرات كيف وضع شرطي ركبته على رقبة المتظاهر بهدف شلّ حركته فكاد يخنقه، وأصيب كذلك ثلاثة من الصحفيين الذين جاؤوا لتغطية الأحداث.

المتظاهرون أصيبوا بالصدمة. كان هذا الاعتداء، الذي تكرر مرتين حتى الآن في الأسبوع التاسع للمظاهرات، شرسا. بعضهم وصفوه بالوحشي، وبينهم جنرالات سابقون في الجيش والمخابرات وسائر الأجهزة الأمنية، ظهروا أمام الشاشات وراحوا يوضحون أن المظاهرات كلها حصلت على ترخيص من الشرطة نفسها، وأنهم لم يمارسوا أي نوع من العنف ضد رجال الشرطة حتى تعتدي عليهم بهذه القسوة؛ كل ما فعلوه هو الجلوس في وسط الشوارع، لغرض شرعي هو شل حركة السير حتى يشعر كل الناس بالمظاهرة.

وفي ليلة السبت الأخيرة، تم الاعتداء عليهم وهم يهمون بمغادرة الشارع الرئيسي في تل أبيب عائدين إلى بيوتهم، وقد تم توثيق تلك اللحظات الطويلة بالكاميرات الإعلامية، فكانوا يخلون الشارع، فجاءت سيارات مدافع المياه من ورائهم وراحت تضخ عليهم. كان بينهم معوقون يستخدمون العربة ذات العجلات، وشوهد أحدهم وهو يتدحرج في الشارع وفرقة الخيالة تطارده. 

مَن يعرف المجتمع الإسرائيلي يعرف أنه من الصعب أن يخرج مئات ألوف المتظاهرين اليهود بقناعات كبيرة حول العلاقة بين ما بدأ من بطش في المناطق المحتلة وبين البطش ضد المتظاهرين اليهود بتل أبيب.

وعندما وصفهم نتنياهو بالفوضويين، واعتبرهم نجله يائير "إرهابيين"، ظهر على شاشات التلفزيون عدد من المتظاهرين يعلنون أنهم ضباط الوحدات العسكرية الخاصة، وراحوا يروون بأنهم شاركوا في عشرات العمليات المغامرة وراء الحدود في تخوم دول قريبة وبعيدة وضحوا بحياتهم "في سبيل أمن الدولة"، ولا يجوز اعتبارهم إرهابيين. وسأل أحدهم: "هل يريدون أن يقنعونا بأننا أخطأنا؟ هل قمنا بهذه التضحيات في الدولة الخطأ وكان علينا أن نعيش في دولة أخرى؟".

وقال آخر إنه كان محقق شرطة عندما اعتقل الوزير بن غفير قبل 19 سنة وأدين بتهمة العضوية في تنظيم إرهابي يهودي، ولا يزال يذكره جيداً كسجين في زنزانة. وتساءل: "هل ينتقم بن غفير منا الآن وهو وزير مسؤول عن الشرطة وعن السجون؟".

لقد تكلم كثير من القادة السياسيين وقادة الاحتجاج والإعلاميين والجنرالات السابقين عن هذه المظاهرات بغضب شديد، أجروا مقارنات مع أنظمة حكم دكتاتورية وقالوا إنهم لن يسمحوا بأن تتدهور إسرائيل إلى ذات الحضيض، وهاجموا نتنياهو وحمّلوه مسؤولية كاملة عن هذه الاعتداءات، لكن شيئاً مهماً جداً لم يذكره أحد، وهو أن هذه الأساليب ليست جديدة وليست غريبة على الشرطة الإسرائيلية، بل سبق أن استعملت ضد مظاهرات المواطنين العرب في إسرائيل (فلسطينيي 48)، وبشكل شرس ضد الفلسطينيين في المناطق المحتلة.

ولا نقول هذا للتشفي، بل لكي نشير إلى حكمة التاريخ؛ كنا نصيح في ذلك الوقت بالمواطنين اليهود: ارفعوا صوتكم ضد الاعتداءات على الفلسطينيين، فإذا سكتم فلن يطول الوقت وسنرى هذه الاعتداءات البوليسية تنفذ أيضاً ضدكم أنتم المواطنين اليهود. كنا نقول لهم إن الاحتلال مفسد، ومَن يعتدي على متظاهرين في الناصرة أو القدس، في جنين أو نابلس، لا يمكن أن يعود إلى بيته من دون أن يحمل معه عادات وتقاليد القمع التي مارسها هناك، فكانوا يبتسمون بسخرية وتهكم. لم يصدق أحد أن مثل هذه الاعتداءات يمكن أن ينفذها يهود ضد يهود.

أخبار ذات صلة
مواجهة جديدة بين غالانت وبن غفير بسبب تسريب محادثات داخلية

مَن يعرف المجتمع الإسرائيلي يعرف أنه من الصعب أن يخرج مئات ألوف المتظاهرين اليهود بقناعات كبيرة حول العلاقة بين ما بدأ من بطش في المناطق المحتلة وبين البطش ضد المتظاهرين اليهود في تل أبيب.

فالجمهور اليهودي لا يتابع الأحداث في الضفة الغربية كما هي في الواقع والصورة التي تصل إليه ناقصة وغير موضوعية على الغالب، وهي تصل مترافقة مع حملات دعاية ديماغوجية تظهر الفلسطينيين إرهابيين فحسب، ولا تروي الحقيقة عن معاناتهم.

وهذا فضلاً عن الواقع الفلسطيني الذي يساهم كثيرا في هذا التشويه، خصوصا مع الانقسام والخطابات "الفصيحة" التي لا تعرف كيف تخاطب العدو ولا الصديق.

ولكن، بلا أدنى شك، هناك مَن بدأ يفهم العلاقة؛ بعض قادة الاحتجاج يحاولون بإخلاص إشراك المواطنين العرب في إسرائيل بالمظاهرات ويطلبون منهم إرسال خطباء يتكلمون من على المنصة، حتى يسمعوا صوتاً آخر ويوضحوا روايتهم.. لعلها تكون نقطة ضوء مشعة وسط الظلام.        

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com