أم سورية ناجية من الزلزال: تصالحت مع الخوف لا الموت

أم سورية ناجية من الزلزال: تصالحت مع الخوف لا الموت

"ما حصل معي غريب نوعاً ما، فبعد الزلزال، بقدر ما قهرني ما حصل، وحرق قلبي، بقدر ما جعلني قاسية، إذ لم يعد هناك أي شيء في الدنيا يخيفني. بالمختصر، بات من الصعب أن أكون خائفة"، هذا ما حدثتنا به "لمى أنور القيم"، الشاعرة السورية المقيمة في اللاذقية، وهي أم لطفلين.

تقول القيم: "قبل الشعور بأن الأرض تميد بنا، سمعنا صوتا مهيبا، يشبه هديرا من باطن الأرض، وكأن الجيولوجيا تطقطق أصابعها تحتنا، وفي تلك اللحظات أحسست أن إسرافيل ينفخ بالبوق".

"أصابني بعد ذلك ما يمكن أن أسميه غياب ذاكرة مؤقتا لما يزيد عن عشر دقائق بفعل الصدمة، ولم أستفق على ذاتي إلا وقدماي مجروحتان من الركض حافية بسبب الزجاج في المنزل والحصى في الطريق، وكل تفكيري منحصر بأمان ولدي اللذين احتضنتهما علَّني أكون ملجأهما الآمن".

قصص مؤلمة تسببت بجروح من الصعب شفاؤها، وبعضها الآخر قد يساعد مرور الزمن على استيعابها.

وتضيف القيم لـ"إرم نيوز": "وما إن هدأ الزلزال بجبروته، واستعدت شيئاً من توازني، وضعت ابني وابنتي عند أقارب لي يسكنون في طابق أرضي من أحد الأبنية التي لم تتصدع، ثم بدأت الاستجابة لنداء بعض الأصدقاء من المغتربين السوريين والعرب الذين تواصلوا معي من أجل مساعدة الناس قدر الإمكان، وحتى الآن أذكر أنني باشرت العمل وأنا بـ"البيجاما" و"بمشّاية" لا أعرف حتى الآن كيف سلكت طريقها إلى قدميّ".

وتتابع: "رغم أن الأماكن التي زرناها أنا وبعض الشبيبة المتطوعين كانت خطرة جداً، إلا أنه بالنسبة لي انحصر تفكيري بأن هناك أمانة برقبتي وينبغي إيصال المعونات إلى معتازيها، بحيث إن التفكير بالموت أو أي حادث آخر زال نهائيا".

بقيت لمى على هذه الحالة أربعين يوما، تبدأ العمل في السابعة صباحا وتنتهي عند الثامنة ليلا، لتعود إلى بيت أقاربها خائرة القوى، تضم طفليها وتنام، وتصف ذلك بالقول: أحسست أن قدرة إلهية سخرتني لأساعد الناس، هو كابوس مررنا به، وليس لي سوى عدة أيام حتى صحوت منه.

وعن شعور الأمومة وخوف الأم على أولادها، أوضحت القيم أنها أمَّنت على ولديها، لكنها طيلة عملها في المساعدات الإنسانية لم تملك الوقت لتتعرف على وضعهما النفسي، وما أسعدها حقا أنها اكتشفت بعد فترة أن ولديها تحولا إلى شخصين قويين، وتعزو السبب إلى أنهما تلمَّسا من أفعالها أنها غير خائفة.

ليسوا بحاجة مساعدتنا فقط، بل بحاجة أن نسمعهم ونضمّ جروحهم ونطبطب على قلوبهم، فالقصة ليست مجرد إغاثة آنية، فمن خسر أهله من الضروري أن يحس أننا أهله.
لمى أنور القيم

وتقول: "إخوتي وأخواتي وأمي عانوا من الخوف لدرجة أنهم لا يجرؤون على النوم في غرف نومهم، وأمي تخشى الدخول إلى المنزل بمفردها، هناك رعب حقيقي عندهم، أما ولداي فالموضوع مختلف، إذ رغم أن الزلازل الثلاثة عشناها معا في بيت أهلي، وهربنا سويا، إلا أنني اكتشفت أن الطفل عندما يرى أمه قوية وغير خائفة، فإنه يتلقى الطمأنينة منها ويصبح يشبهها جدا".

وعن مشاهداتها بفعل عملها الإغاثي توضح لمى أن أكثر ما يقهر في الحالات التي كانت قريبة منها، هي الأقدار الغريبة لخسارات الأهل، كأن تكون المرأة والأولاد متوفين بينما الزوج على قيد الحياة، أو زوجان مات أبناؤهما جميعاً، أو أن الأم توفيت مع بعض الأولاد وبقي الأب وأحد الأطفال.

وتحكي القيم عن شاب اسمه سلمان وهو وحيد أهله، منزلهم في قبو أحد الأبنية، وقبل ليلة الزلزال ظلَّ في بيت جده باللاذقية، وعندما علم بأن والديه باتا تحت الأنقاض، أبى إلا أن يزيلها بيديه، وأخبر لمى عن فرحته حينما وجد جثتيهما كاملتين، مع ملامح لا تشي بالخوف على وجهيهما، بل مجرد جثتين هادئتين على سريرين متجاورين.

أخبار ذات صلة
سر لف الناجين من زلزال سوريا وتركيا بـ"بطانيات الألومنيوم"

وتقول: أخبرني قصته وهو مبتسم لأن جثتي والديه كانتا سليمتين غير مشوهتين، هو يبتسم وأنا أتشظى من الداخل، لكن على ما يبدو أنه كما أنا تصالحت مع الخوف هو تصالح مع الموت، والأقسى أنه يعتقد أنه كان من الممكن أن يحصل ما هو أكبر من ذلك، لكن الله نجانا، ولا أعرف ما هذه النجاة التي يتحدث عنها وتتضمن موت أهله بهذا الشكل.

وتضيف القيِّم: حتى الجرحى ضمن المشافي كانوا أقوياء بشكل لا يوصف. هناك رجل خسر زوجته وابنيه وبقي معه ابنه الثالث، وعندما تحدثت معه وجسده مليء بالصفائح والبراغي في قسم العظمية ضمن مشفى تشرين، كان يبتسم ويتحدث بشكل طبيعي، قائلاً: ربما لم أستوعب بعد الخسارة التي تعرضت لها، لكن يكفي أنني لم أخسرهم كلهم.

"ربما هم غير مستوعبين لما جرى، أو لم يجلسوا مع أنفسهم ليفكروا بما حصل"، هكذا تختم لمى القيم حوارها معنا، وتؤكد: "مثل هؤلاء ليسوا بحاجة مساعدتنا فقط، بل بحاجة أن نسمعهم ونضمّ جروحهم ونطبطب على قلوبهم، فالقصة ليست مجرد إغاثة آنية، فمن خسر أهله من الضروري أن يحس أننا أهله، ومن فقد أولاده واجبنا أن نشعره بأننا أولاده، ومن خسر إخوته نحن إخوته".

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com