تعيش سوريا ارتفاعًا جنونيًّا في أسعار السلع الغذائية والخدمات والنقل والعقارات والمحروقات وقريبًا الكهرباء والخبز والماء.
يأتي ذلك وسط إجراءات حكومية غير كافية لضبط الأسواق أو إنقاذ القدرة الشرائية المتدهورة، وفي بلد يعاني أساسًا من ظروف مناخية صعبة أضرت بالإنتاج الزراعي، ومن صراع، وعقوبات اقتصادية خانقة.
إلى ذلك، بات الغلاء حديث السوريين اليومي في الأسواق ووسائط النقل وأماكن العمل وعلى مواقع التواصل الاجتماعي وفي النقاشات العامة، إذ إن الجميع يعاني، كما تعاني الليرة انخفاض قيمتها، والجميع ينتقد العجز الحكومي ولا يعرف كيف يتدبر تكاليف المعيشة.
وحدها الرواتب والأجور ظلت ثابتة، تعاني أيضًا، عند حد أدنى ومتوسط 200 ألف (20 دولارًا)، رغم قرار الزيادة الأخير بنسبة 100% منتصف العام الماضي.
لكن شبح التضخم ظل حاضرًا، يلقي بتداعياته على الأسعار وعلى جيوب السوريين؛ ما جعل التوقعات تقضي بأن الجوع سينال من شريحة ذوي الدخل المحدود عاجلاً أم آجلاً.
وما عزز هذه الفرضية، تقرير حديث، نشرته صحيفة "قاسيون" المحلية، أظهر ارتفاع تكاليف المعيشة للأسرة المكونة من خمسة أفراد في سوريا مطلع العام الحالي، بما يتجاوز حاجز الـ12 مليون ليرة شهريًّا (نحو 900 دولار)، مقابل وسطي التكاليف التي سجلها مؤشر "قاسيون" في شهر سبتمبر/ أيلول الفائت، قرابة 9 ملايين ليرة (نحو750 دولارًا).
تدهور القدرة الشرائية
وأكد المحلل والصحافي الاقتصادي، علي سليمان، أنه بغض النظر عن مدى دقة هذه الأرقام غير الرسمية فمن المؤكد أن القدرة الشرائية تدهورت إلى حد غير مسبوق وترافق هذا التدهور بانخفاض قيمة الليرة.
وقال سليمان، الذي يشغل منصب رئيس تحرير موقع اقتصادي محلي لـ "إرم نيوز"، إن العام الماضي هو أكثر عام شهد ارتفاعًا في أسعار المشتقات النفطية.
وأضاف: "من المعروف أن ارتفاعها مرتبط بقلة توفرها بسبب الحصار والعقوبات الاقتصادية ونتيجة خروج مناطق خزان المشتقات النفطية بالمنطقة الشرقية خارج سيطرة الدولة؛ ما أدى في المحصلة إلى ارتفاع معدل التضخم نهاية العام بنسبة 156 في المئة".
وتابع: "ارتفاع أسعار المشتقات النفطية انعكس بشكل مباشر على أسعار الخضار والفواكه وغيرها من المنتجات الغذائية نتيجة ارتفاع تكلفة عمليات النقل بين المحافظات. ولأن حوامل الطاقة تدخل في تركيبة التكلفة النهائية لأي سلعة وهي سبب رئيس في انخفاض القدرة الشرائية".
واستطرد: "تدهور القدرة الشرائية يدخل فيه تركيبة عوامل داخلية وخارجية تجعل من إمكانية سد الفجوات أو الانقاذ صعبة".
وأشار إلى أن أهم عامل هو استقرار سعر الصرف لمدة زمنية لا تقل عن ستة أشهر إلى عام حتى تكون عمليات استيراد المنتجات والسلع على سعر صرف مستقر بالدرجة الثانية، واستقرار أسعار حوامل الطاقة لأنها تلعب دورًا في تكاليف السلع والمواد المنتجة محليًّا أو المستوردة.
والنقطة الثالثة بحسب سليمان، هي دعم الإنتاج المحلي الزراعي والصناعي ليغطي حاجة السوق، وهذا يسهم في تخفيض فاتورة الاستيراد لأنها الأعلى تكلفة وتتسبب بنقص القطع الأجنبي من الخزينة.
حلقة مفرغة
بدوره، أكد الخبير المصرفي، عامر شهدا، أن سلسلة تضاعف الأسعار بدأت برفع سعر صرف دولار الحوالات إلى 13 ألف ليرة مطلع العام، تلاه ارتفاع سعر البنزين والمازوت بنسبة تتساوى مع النسبة التي ارتفع بها سعر الصرف، ثم صدر قرار آخر برفع سعر البنزين، أي أنه وخلال أقل من شهر تم رفع سعر البنزين بنسبة تتجاوز 18 في المئة.
وقال شهدا في حديث لـ "إرم نيوز": "هذا يعني أن المنهجية التي تتبعها الحكومة هي تخفيض سعر الليرة وبنفس الوقت رفع الأسعار وهذا سيؤدي حُكما إلى تراجع الاستهلاك".
وفي حال كان الهدف من رفع الأسعار هو تأمين موارد لتأمين المشتقات النفطية فتراجع الاستهلاك لن يحقق هذا الهدف لأنه لن يفضي إلا إلى رفع تكاليف الإنتاج وبالتالي زيادة نسبة التضخم.
ووصف شهدا هذه المنهجية الحكومية والمتبعة منذ العام 2020 "بالدوران في حلقة مفرغة" والدليل ارتفاع سعر صرف الدولار من 4800 ليرة مطلع 2020 ليصل اليوم إلى 13 ألف ليرة وقس على ذلك من خسارة الليرة لقيمتها وارتفاع الأسعار وضعف الاستهلاك.
واستطرد بالقول إن الاستمرار في هذه المنهجية، رفع سعر الصرف، يليه رفع سعر المشتقات النفطية، يليه ارتفاعات "صاروخية" لأسعار أكثر من 265 مادة استهلاكية لن يؤدي إلا إلى نفس النتائج، وهي تجميد الإنتاج، وإفقار المواطن، وضرب موارد الخزينة العامة للدولة.
تصدير زيت الزيتون
وأثار قرار حكومي صدر مؤخرًا يسمح بتصدير زيت الزيتون ردود فعل متباينة لتزامن القرار مع عدم توفر المادة وارتفاع أسعارها في السوق المحلي.
وحددت وزارة الاقتصاد الآلية الجديدة للتصدير في عبوات لا تزيد عن حجم 5 لترات أو كيلو غرامات، وبكمية لا تزيد على 5000 طن على أن يكون سقف طلب المصدّر 25 طنا فقط، وأنّ تتم عملية التصدير خلال 15 يومًا من تاريخ الموافقة عليها.
مواطنون عبروا عن استنكارهم للقرار الذي أدى إلى زيادة الطلب عليها من قبل التجار واحتكارها بغرض تصديرها وعدم توفرها وبالتالي ارتفع سعرها إلى ما يفوق قدرتهم الشرائية حيث وصل سعر التنكة إلى 130 ألف (100 دولار) وسط توقعات بأن يرتفع سعرها بعد القرار إلى 170 ألف ليرة (120 دولارًا).
وتساءل أحمد وهو موظف حكومي: "هل يعقل أن يكون سعر الزيت في البلد المستورد أرخص من سعره في البلد المصدّر. الزيت متوفر ولكن تجميع التجار له بغرض تصديره أدى إلى ازدياد الطلب عليه وارتفاع سعره والمواطن بالمقابل يحتاج إلى تجميع راتبه الشهري لمدة لا تقل عن 6 أشهر ليتمكن من شراء تنكة زيت واحدة".
وكان رئيس جمعية حماية المستهلك عبد العزيز المعقالي أكد في تصريحات صحفية أن التصدير دعم لخزينة الدولة ولكن يجب أن يكون بعد تأمين احتياجات السوق المحلي بما يتناسب مع القدرة الشرائية للمواطن وليس على حساب لقمته.
من جانبه، كشف شهدا الاقتصاد السوري اليوم غير معتمد بموارد القطع الأجنبي على التصدير بل على حوالات خارجية من العمال السوريين. وبالتالي فإن المستفيد الأول من قرار تصدير الزيت هم التجار وليس الفلاحين أو المواطنين، وكذلك كل التصديرات التي تخضع لسماحية وزارة الاقتصاد ما هي إلا عمليات تجارية احتكارية ترفع الأسعار وتخفض القدرة الشرائية.
وبالتالي فإن شقاء الفقراء يذهب لجيوب الأغنياء وبدعم حكومي.
وكانت وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية أكدت في بيان انخفاض قيمة مستوردات القطاعين العام والخاص في عام 2023 بنسبة إجمالية بلغت 27 في المئة عن قيمة المستوردات للقطاعين المذكورين في عام 2022 بما يفوق 3.2 مليار يورو.
وفي مقابل ذلك شهد جانب التصدير تحسنًا في قيمة الصادرات بنسبة تصل إلى 60 في المئة وبقيمة إجمالية لصادرات القطاعين تزيد على 900 مليون يورو.