رواية "الأفق الأعلى".. كاميرا تراقب تحركات الإنسان

رواية "الأفق الأعلى".. كاميرا تراقب تحركات الإنسان

تضع الروائية السعودية فاطمة عبد الحميد، الموت كراوٍ لأحداث السرد في روايتها "الأفق الأعلى"، والتي تناقش زحام المواقف والتفاصيل الإنسانية اليومية، ورغبات البشر وتلاحمها، والتدخل المحسوم للموت بين كل ذلك.

الرواية صادرة عن دار مسكيلياني للنشر، ومتأهلة للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربي 2023.

وترتكز الرواية بأحداثها إلى شخصية سليمان، الذي تحرف أمه مسار حياته، لتنقله من حياة الطفولة لحياة الرجال، عبر تزويجه في سن الثالثة عشرة، من نبيلة التي تكبره بأحد عشر عامًا.

وتكشف الأحداث فيما بعد، أن الحياة تمضي في إطار صراع رغبات للشخصيات، فما بين رغبة الأم حمدة، وسيطرتها على ابنها، تحولت حياة سليمان إلى رغبة في تعويض متأخر، إذ إن الحب الذي لم يعشه في شبابه، انطلق نحو عيشه في شيخوخته.

من حوار بين نبيلة وسليمان: "أتعْلَم، حتى المسنون يحبون اللعب، وأمك تريد أن ننجب أطفالاً لتلعب معهم، فلنصنع لها لعبة تلهيها عنك".

يقول الموت للإنسان: "كل ما عليك أن تدركه هو أنني اللمسة الأخيرة على ألمك المزمن".

متاهة

وتوضح الكاتبة أن هنالك صراعات كبرى يعيشها المرء في طريق يشبه المتاهة، حيث يُختبر الإنسان بالحب، والفقد، والخيانة، والمشقة، لكن يبقى الاختبار الأخير، الذي بتحققه تنتهي كافة التأثيرات الجانبية للمشاعر الأخرى، ففي لحظة مقنعة، يقول الموت للإنسان: "كل ما عليك أن تدركه هو أنني اللمسة الأخيرة على ألمك المزمن".

وصف ذكي

بينما تأتي لغة السرد العمل، مُتجملة بالوصف الذكي للمشاهد، إذ تزيد الكاتبة من أثرها عبر تحمليها بالمشاعر في مواطن، وبالحوار العقلي في أخرى، وفي كل مرة، الموت هو المُحاور.

ميزة التشويق تكمن في الاسترسال السردي وبقدرة الكاتبة على التقافز ما بين هذه الخطوط المتعمقة في الماضي والحاضر لكافة الشخصيات.

وتتسم كذلك اللغة بالتفلسف الجاذب، كأن تربط الكاتبة ما بين أدوات اللعب الطفولية، وأدوات اللعب الجسدية، وذروة المشاعر، وقد حلّت عبر ذلك لغز انتقال سليمان من حياة الطفولة البريئة، لعالم الرجولة، إذ إن الجزء الطري من جسد نبيلة، كان الشكل الأقرب لشكل الكرة التي يحب، فتم الإغواء.

خيوط

فيما تمسك الروائية بخيوط مختلفة للزمن، تتنقل فيما بينها رواية الموت للأحداث، ومن خلال هذه الخيوط، تتشكل بنائية السرد كاملة، إذ يكون خيط ماضي شخصية سليمان، بطفولته البريئة وميله للعب كرة القدم، حتى بعد الزواج، هو مساحة للتعرف على شخصية سليمان المهتزة الجاهلة بالكثير من الأمور، الذي يخاف أن يرفع الحجر، فيتفاجأ بما تحته.

أما خيط حياة نبيلة، فهو خيط المرأة التي تخشى أن يفوتها قطار الزواج، وسط تلميحات ممن حولها، بالمسارعة في اغتنام أي فرصة زواج مستقبلية، في مجتمع يؤمن بعنوسة المرأة.

وهنالك خيط الحاضر الذي يجسد حياة نبيلة وسليمان والأبناء الثلاثة، بعد مرور 34 عاماً على الزواج، وانتقال الصراع الشخصاني بينهم، إلى منطقة مغايرة.

إن ميزة التشويق، تكمن في الاسترسال السردي، وبقدرة الكاتبة على التقافز ما بين هذه الخطوط المتعمقة في الماضي والحاضر لكافة الشخصيات، فما بين فقرة وأخرى تنتقل بسلاسة، دون نشاز يعيق حالة السرد وإيقاعها المتسارع، عبر 230 صفحة من القطع المتوسط.

عقارب ساعة

هنالك سرد مُحاكٌ للمواقف ورسم متقن للخيال حول الشخصيات، وحيل مترابطة تحقق التداخل فيما بينها، كل هذا أسهم في نمو التشويق، الذي بدا يعمل مثل عقارب ساعة خلال السرد، إذ يدور العقرب الصغير دورة كاملة، بطيئة، متصاعدة، داخل الرواية بأكملها، بينما يدور العقرب الكبير دورته السريعة حتى يكتمل المشهد الواحد، وكأنما ثمة أداتان للتشويق تعملان متداخلتين داخل السرد.

أخبار ذات صلة
حصدت "جائزة الأدب العربي".. "الهاوية الجميلة" رواية تونسية عن العنف الأسري

فها هي الجارة سمر تعود لتظهر أمام شباك مطبخ سليمان بعد الغياب، لكنها تبدو مثل الشبح، وهو توصيف يرفع من التوتر، ويزيد من احتمالات القلق في ذهن القارئ، وفي الوقت ذاته، لو ابتعدنا كما تبتعد عدسة كاميرا تصور جزءا صغيرا، لتلتقط المشهد العمومي، فإن السؤال حتماً سيكبر حول شخصية الجارة سمر، وسبب دخولها الحيز السردي، سؤال بحاجة لإجابة فيما بعد، ستكشفه الأحداث.

دائرة الموت

كما تحاول الكاتبة أن تبين وجوهاً مختلفة لتحقق الموت، الذي يأتي قاصداً الجسد الإنساني، عازماً على إنهاء مسيرته في لحظة مقررة، ولا يكون للمسبب طرف فيه، سوى أنه دخل الدائرة التي يعلن من خلالها الموت عن وجوده فهو الكاميرا الملازمة لتحركات الإنسان.

يروي الموت:" تركت سليمان يلتقط نفساً طويلاً، قبل أن يغطس ثانية في ذاكرته، وتوجهت إلى سيدة في غرفة العناية المركزة المجاورة، فأصابتها رؤيتي بالهلع. ورحنا نلعب اللعبة نفسها، التي أشاركها جميع البشر: أن يهربوا مني وأنا أطاردهم، لا أسأل ما إذا كانت هذه اللعبة تمتعكم، فهذا أمر لا يعنيني".

جدران

حين عرف سليمان الحب في خريف العمر، أحاطه الجنون مثل جدران غرفة، ورأى في سمر الجائزة الكبرى التي تمنحه الحياة إياها، لكنها أشعلته بتمنعها كأن يُشعل عود ثقاب في بيت من الكبريت.

فكان الحب اللعبة الكبرى التي أجهدت سليمان، ولربما رأى فيه شغفه الأول الذي يمسح على رأسه، ليعوضه عن حرمان اللعب في الطفولة، إذ أخضعته أمه لتجربة تسريع الحياة، بالزواج المبكر، لتعود فكرة اللعب تلاحقه طيلة عمره، ويموت وهو يلعب كرة القدم.

من الرواية:

"الشيطان والحب وحدهما قادران على العبث بالبشر، أما الشيطان فأمره هيّن، إذ تكفي النية الصادقة أو الموسيقى لطرده. وأما الحب فلا شيء يمحوه، بل إن كل ما يحدث وما لا يحدث، يكون سبباً في إحيائه".

خلال هذا السرد، أسئلة كبرى حول تقاطع رغبات الإنسان مع الآخرين في الحياة، فهل كان مسار حياة سليمان، محاولات لتعويض الماضي، سوى نتيجة لرغبة أمه القاسية؟ وهل كان أمجد واقعاً في فخ جينات سليمان بأذني الوطواط؟ وهل تشابه قصي مع ماضي الأب سليمان، بعدم شعوره بالحب أينما حل؟ ثم ما هي مشاعر نبيلة، داخل حياة عاشتها لعبة غير مفهومة، كان عليها أن تدوس على كافة أزرارها لتعمل، تلك لعبة المتاهة، دارت ولم تتوقف إلا بالموت.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com