"ناي مثقوب من المكان الخطأ"..ديوان جديد للشاعر العراقي حيدر قحطان

يدور الشاعر العراقي حيدر قحطان، في فلك الحب والحرب والفقد، والعلاقات المتشابكة فيما بينها، في مجموعته الشعرية الثانية "ناي مثقوب من المكان الخطأ"، الصادرة عن دار الرافدين للنشر والتوزيع 2020.

ويتضح من النسق الشعري للشاعر بأنه يميل إلى تشخيص تأملاته اليومية، وإعادة هيكلتها، في إطار لغوي يلمس العاطفة، ويناور في مدارها.

ولأن الكتابة شعريا في الحب تحديدا، تتطلب ثقافة عاطفية، وتجربة تقوم على ملامسة متعمقة، فقد خاض قحطان في منطقة ملغمة، أفرزت منه خيالات واستعارات خاصة، وبينت قدرته على نسج خيال الشعر، والتلاعب بالأحاسيس الإنسانية.

سرد

وما يلفت في بناء الجملة الشعرية عند الشاعر، بأنه يتنوع في قصائده ما بين التكثيف والسرد، ففي كثير من المناطق يسهب في سرد تفاصيل المشهد، كما في نص "محاولات فاشلة"، فيتجاهل أدوات التكثيف القائمة على الاختصار والحذف للكلمات الزائدة والمكررة جانبا، في تجسيد أفكاره.

أما في المضمون، فإن الشاعر العراقي يشاكس في نصه الشعري، باقتناص الحدث العادي، وتحريكه إلى منطقة الشعر، فما يدور على الطريق في يوميات الإنسان، يعتبر عنده مساحة تأمل، وكما يندهش أحدهم لهدية عيده، بفك الغلاف عنها، يفعل قحطان مع الأشياء لإظهار مضمونها، على طريقته الشعرية.

ففي نص "طريق"، يضيء قحطان على فلسفة التعامل مع الحدث، ويعطي الهدفية للشيء الرتيب، من خلال الإنارة بالعمق على ما يدور، فيكتب:

"كالطلاب الذين يرسبون في الدراسة،

ويأخذونهم إلى الجيش،

كنت أتعمد الرسوب معهم،

فقط، لأن الطريق نحو الجبهة كان يمر بمنزلك".

فما بين المتحرك والثابت، تظهر الفروقات، ويتم الربط بين التناقضات، والمتشابهات، ليكون الشعر هو سيد اللغة.

بحيرة الشعر

وبحس الوعي تجاه قيمة التشكيل المختلف، والبحث عن ما يعاكس النمط الحالي، يكتب قحطان في نص"صيغة جديدة للعالم"، عن حُكم الشعر للأرض، وانخراط جمالياته بين مكونات الطبيعة بشكل تجسيدي فيتساءل: "ماذا لو قرر الشعر أن يغزو العالم؟"، هو طرح دون إجابة وحيدة، ويفتح الباب أمام تأويلات وخيالات متعددة، لا بهدف الإجابة، وإنما بهدف وضع سيناريوهات أخرى، معاكسة تماما لما يحدث في العالم الآن، من حروب، وقتال، ونزاع على القناعات. إن جاء الشعر فإنه يأتي بهدف إيجاد الخلاص للمرء من كل ما ينفي عنه إنسانيته.

لكن الشاعر ينفي قيمة كل ما مضى، ويتطرف في ذلك، ما لم يكن تعويم العالم بماء الشعر مقترنا بالحبيبة، فالشعر والإنسان، كل منهما قادر على تفعيل الآخر، فيتدارك قحطان في النص نفسه:

"لكن ما هو مرعب حقا،

أن يتحول العالم إلى بحيرة كبيرة من الشعر،

يسبح فيها الجميع ويغرف من مياه أوصافها،

المرعب أن يحصل كل هذا،

وأن لا تكوني بالقرب مني.

حتى ولو بهيئة قصيدة حزينة".

لعبة

وفي المساحة العاطفية نفسها، يقوم الشاعر العراقي بتصفيف المعنى مثل خطوط كلمات متقاطعة، هذه الخطوط هي كلمات القصيدة، لكن المعنى الأخير، يظهر، حينما تطل المرأة في النص، فهي الأحرف المتناثرة بين المربعات، بتأملها وتجميعها، سنعرف عمق لعبة الشعر، فيكتب قحطان في نص  "حاجة مُلحّة":

"تمرّين على نص صغير كتبته،

بلا هدف ولا معنى،

فيصبح بعدك نهرا تتدفق منه اللغة بغزارة.

كأن كل ما أكتبه يحتاج إلى شيء منك كي ينمو".

هواء خشن

ومن مجموعته الشعرية الأولى "خارج النافذة بقليل"، يسترجع قحطان إحساس الفقد قديما لديه، ليقارنه بما وصلت إليه عاطفته تجاه الأشياء الآن، يكتب عن ذلك بإحدى فواصل مجموعته:

"وحده الذي أمضى حياته يودع الآخرين، ويلوح لهم، يعرف معنى أن يكون الهواء خشنا".

هذا الوجع، المقترن بالفقد والخسارة، يجعل من أي شيء مهما تناهى صغره، مثار تصادم مع الإنسان، حتى لو كان ذرة هواء، غير مرئية.

كاميرا خفية

مع كل مجموعة شعرية يكتبها عراقي، يتضح لنا جزء جديد من تفاصيل الحرب داخل الإنسان العراقي.

والملاحظ أيضا اقتران الحرب بتفرعاتها المختلفة بالأم؛ لأنها أكثر من يخاف على ما يملك، وآخر من يغلق باب الأدعية الموجهة للسماء، هي أيدي الأمهات في الحرب مرفوعة كسلالم، تصعد عليها الأدعية.

ويتمثل ذلك في نص "دعاء مستجاب"، حيث يجرد قحطان مأساة الحرب، بنقل المفترس والضعيف على هيئة القاص والمقصوص، فليس الأمر كافيا أن ينقل الشاعر فكرة الموت، إنّما أن يجعلها تتحرك في الخيال، الصوت الناتج عن حركتها، هو الشعر، يكتب قحطان مُجسدا ذلك :

"اللهم لي أولاد مثل القماش،

أخاف عليهم من مقصات الحرب".

وفيما يتعلق بالعنوان "ناي مثقوب من المكان الخطأ"، فإنه يأتي بدلالة التشويه، والنشاز، أو حتى سكون الموسيقى، في عالم تزداد كوارثه، ويُستَدرج الجمالَ النادر فيه، لمنطقة الدم.