"كم كان غريبا أنني صدّقت" للفلسطيني قطينة.. الشعر أول الحواس وآخرها
"كم كان غريبا أنني صدّقت" للفلسطيني قطينة.. الشعر أول الحواس وآخرها"كم كان غريبا أنني صدّقت" للفلسطيني قطينة.. الشعر أول الحواس وآخرها

"كم كان غريبا أنني صدّقت" للفلسطيني قطينة.. الشعر أول الحواس وآخرها

تتعدد الأفكار التأملية لتجارب الإنسان مع الآخرين، ومع ذاته، وكذلك مع مشاهد الحياة بأسرها، في المجموعة الشعرية "كم كان غريبا أنني صدقت" للشاعر الفلسطيني معتز قطينة، تلك الصادرة عن دار رواشن 2018.

ويبدو "قطينة" في نصوصه كمن يمرّن أحاسيسه، صانعا إضافة قيّمة لقصيدة النثر، بما يحتوي نصه من أعماق بين التراكيب، ومواكبة لصوته الداخلي النقي، ذلك المعتمد على تجريد المعنى، وطرحه ضمن فلسفة شعرية متجددة، حيث تتجسد القصيدة عنده في انفتاحها على معايشة الشاعر ليومياته، والقدرة على دمج القناعات والأفكار داخل النص، مع الحفاظ على الرونق الشاعري، بالإضافة إلى تعددية التأويل للكثير من الجمل.

كما تحمل أساليبه أدوات التكثيف في التراكيب، والتنوع ما بين التقرير والنفي والتوكيد، والنداء، والنهي، بالإضافة إلى الأسئلة الشعرية المتقنة، ما يجعل النص لديه محملا بمعرفة ناضجة، لا زوائد فيها، فتبدو منمقة، كما طريق مرصوف.

 

التخلي

في نصه الأول، يبدأ "قطينة" رحلته من أقصاها، كأنه يريد أن يلخص التجربة بأسرها، بالتخلى عما سبق من تجارب، وما سيأتي من نصوص، ذلك كله بتمنيه أن يكون هو نفسه منفى لكل ما اختلط به، لجراحه، وحزنه، وحبه وإخلاصه، ذلك المنفى الذي يحيلنا إلى أجساد لا أكثر، دون همّ وجودي، حيث يكتب:

" أريد أن أكون منفى؛
لأن المنافي لا تعرف العاطفة،
تسلخ البعد عن جلده،
ولا تفكر برأفة.
جراحي محدّبة، كعدسة صائغ،
ومثلما يحكّني الوهج ألمع.
أصرخ في العالم:
اليوم آخر أحزانكم، فاتحتي.

اليوم صراعاتكم تمضي إلى قبرها،

وأنا الحفّار".

وحين يخاطب "قطينة" الجموع في نصه، فإنه يؤسس لرسالة شعرية، تنم عن انطباع أخير، ففي تلك اللحظة، لم يعد قادرا على الاستثناء، إحساس خيبة بين السطور، دفعه للمجيء بفعل الشعر إلى العالم كمنفى، ليطهر الناس من نزعة الصراع، والجراح المتكررة.
الإنسان كمنفى عند الشاعر معتز، يختلف عن منفى إدوارد سعيد حيث يكتب عن أثره: "للمنفى شجن دفين لا يمكن التغلب عليه البتَّة، فهو ينبع من الواقع الأساسي للمنفيّ، من الانفصام أو الشرخ الذي لا برء منه بين شخص ما ومكانه الأصلي، بين الذات وموطنها".

 

قلق أبيض اللون

وبينما يجعل الشاعر الفلسطيني من قلقه أبيض اللون، فإنه يصنع كمامته من السواد. والإنسان حين يضع كمامته فإنه يستشعر الخطر، يدافع عن كينونته بفصل المحيط عنه، بما يضمن البقاء. وبقاء "قطينة" في نصه مختلف، فكينونة الإنسان لديه لا تكتمل، إلا بوحدته مع من يحب. فيكتب في نص آخر يحتوي عنوان المجموعة في آخره:

"مكمم بالسواد،
مسجون بالحدود والأختام،
وقلِق، لأن الوقت يمضي وأنتِ وحيدة.
في كل زوايا الفندق لم أجد منديلًا عليه آثار شفتيك، ولم أجد شفتيك حين أغلفت فمي،
وكان غريبًا،
أن ترحلي عن الطاولة؛ كي يتبعك المجانين،
وكم كان غريبا أني صدقت ذلك!".

وعند قطينة، ما يصنع بالصبر لا يفقد رائحته، كماهية تصنيع هذا الكون، ولأن الصبر يعتمد على تمدد الوقت أو انكماشه، فإن الحيرة التي يحملها المرء من ذلك، تبدو قناعة تسيطر عليه. حيث يكتب في نص آخر:

"لا زلت حائرا،
من يصنع الآخر، القرار أم ساعة نظنها الأبد؟
ما الذي يلقي بنا في الهاوية -لم نكن نعلم أنها كذلك- الدهر؟ أم عقل ناقص يُرى مكتملا!
وكيف ننتهي، ونحن نعرف، كلما كبرت شجرة الأيام، امتدت جذورها في صدورنا!".

ويختتم "قطينة" نصه باستدراك شعوري، لو ترجم إلى فعل لتغير الكثير في حياتنا، يقول:

"يا للبداهة، كان الأولى بنا الصمت،
الكلمات ورطة، تكبر بعد أن نلفظها".

ويعمد الشاعر معتز إلى عدم وضع عناوين على مداخل قصائده، إنما إشارة لاتينية على شكل حرف M، وهو ما يجعل من القصائد كلها رحلة واحدة، دون انقطاع. ويؤكد على هذا التواصل، بعودته لذكر عنوان مجموعته في نص آخر، معبرا عن دهشته بالمرأة حينما تكون بصفات غير مألوفة، فيكتب:

"لم أكن أصدق أن هناك عينين تقفز منها السناجب، حتى رأيت لون عينيك،
وكم كان غريبا أني صدقت هذا!".

يتضح بمجمل ما قدمه الشاعر، ميله إلى تحليل نفسي لما يجول في المختبر الإنساني المغلق أخيرا، بعد رحلة طويلة من التجارب، تخللتها مشاعر الخيبة والخذلان، والحب، والفراق، والحنين إلى الوطن والأرض، كذلك الانفصال عن شخصيته في لحظات كثيرة. أفكاره كانت تصدر موسيقى/فالأفكار الجيدة لا تخلف ضجيجا/، وموسيقاه جديرة بالاستماع. كل ذلك يجعل من شعر قطينة مسرحا للتأمل، قادرا على تأسيس مساحة لتبادل الحوارات بين القارئ وذاته.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com