logo
مقالات مختارة

القدس ملتقى الثقافات… حتى ظهرت الصهيونية

القدس ملتقى الثقافات… حتى ظهرت الصهيونية
21 مايو 2023، 10:34 ص

لو كنت من المترددين على حانة فندق الملك داوود بالقدس عام 1940، كنت سترى أبرز الشخصيات في الشرق الأدنى آنذاك. فعندما كانت الدولة ترزح تحت قيود الحكم البريطاني، كان فندق الملك داوود أفضل الفنادق في محيط مئات، بل وآلاف، الكيلومترات. ولم يكن علية القوم من أهل البلد الفلسطينيين وحدهم مَن يقضون أوقاتهم هناك، وإنما كان بالإمكان أحيانًا رؤية شخصيات شهيرة من بلدان أخرى أيضًا من منطقة الشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض المتوسط، مثل شاه إيران وملك مصر وزوجته وقادة الحلفاء وجواسيسهم، بل وأحمد زوغو ملك ألبانيا أيضًا.

هذا ما خطَّه قلم المؤرخ الفلسطيني نصر الدين النشاشيبي، الذي عاش في حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية، في حديث له اقتبسته الكاتبة هدرة لازار في كتابها الصادر عام 2011 بعنوان "الخروج من فلسطين: بناء إسرائيل المعاصرة" عن الأيام الأخيرة للانتداب البريطاني. وفي حفلات الاستقبال التي أقامها المفوض السامي، رقصت الشخصيات رفيعة المستوى في تلك الحقبة إلى جانب المثقفين العرب من أمثال جورج أنطونيوس وزوجته كاتي التي حظيت بمكانة بارزة في المجتمع، وإلى جانبهم يهود السفارديم الأثرياء. أما مَن لم يشاركوا في تلك الاحتفالات، فكانوا زعماء الحركة الصهيونية، وهو ما وصفه النشاشيبي بقوله: "لم يحب دافيد بن غوريون الرقص".



لم يحب الصهاينة الأجواء متعددة الثقافات في القدس التي جسَّدها الفندق الشهير وغيره من الأماكن الأخرى. وكانت لديهم رؤية مغايرة تمامًا للمدينة تمكَّنوا في النهاية من تحقيقها. ففُجِّر جزء من فندق الملك داوود عام 1946 على يدِّ جماعة الإرجون، وهي إحدى الجماعات الصهيونية العسكرية السرية، وهو الهجوم الذي يمكن وصفه، بما أسفر عنه من عدد كبير من الضحايا، بأنه أحقر عمل إرهابي يهودي. لكن ذلك الحادث يحمل في الوقت نفسه أهمية تاريخية؛ فهو يُمثِّل بداية نهاية القدس متعددة الثقافات في ظل الحكم البريطاني. إذ إنه منذ ذلك الحين، هيمنت النزعة القومية والانعزالية الصهيونية على المدينة.

عندما تأسست دولة إسرائيل، تُوِّجت القدس عاصمة للدولة و"عاصمة لليهود"، وهذه هي صورتها الحالية في الوعي الجماعي. ويمكن القول إن الصورة السائدة للقدس في الوقت الراهن هي صورة "مسيرة الأعلام" القبيحة التي تُقام كل عام احتفالًا بما يُطلَق عليه "توحيد" المدينة عام 1967، وتصاحبها تحريضات ضد سكان المدينة من الفلسطينيين. فالقدس هي المدينة القومية والدينية، بينما تل أبيب هي العاصمة الحضرية العالمية متعددة الثقافات.

لكن الحال لم تكن كذلك دائمًا؛ ففي النصف الأول من القرن العشرين، كانت تل أبيب التي تأسست حديثًا هي التي يُنظَر إليها على أنها مدينة صهيونية متعصبة ومعقل أنصار الأيديولوجية القومية، بينما اُعتبِرت القدس جزءًا من أراضي الشام مترامية الأطراف وارتبطت بعواصم المنطقة، مثل: عمّان، والقاهرة، ودمشق، وإسطنبول. وكانت مدينة أكثر تنوعًا بكثير من الآن. في الواقع، لا تزال القدس تحظى بالتنوع، ولكنه تنوّع يختنق تحت براثن السيطرة والرقابة المشددة لحرس الحدود، وفرقة مكافحة الإرهاب الشرطية، وجهاز الأمن العام الإسرائيلي (شين بيت). لقد صارت القدس الصهيونية معزولة خلف مشاعر التفوق اليهودية، وتدير ظهرها للمنطقة والعالم أجمع.

في متجر الكتب "أدرابا" بحي رحافيا الذي يُعَد أحد الأماكن القليلة متعددة الثقافات في القدس، وجدت كتاب «القدس: تاريخ مدينة عالمية» الذي تُرجِم أخيرًا إلى الإنجليزية من الأصل الفرنسي الصادر عام 2016. ألَّف الكتاب الأصلي مؤرخون فرنسيون على رأسهم فينسنت لومير. والصورة التي رسمها الكتاب لمدينة القدس مغايرة لتلك التي يُقدِّمها نظام التعليم ووسائل الإعلام المحلية في إسرائيل.



على مدار مئات، إن لم يكن آلاف السنين — باستثناء فترة قصيرة لا تزال مثارًا للجدل — لم تكن القدس عاصمة أي دولة أو أي كيان سياسي، وإنما كانت غنيمة مهمة لإمبراطوريات عديدة من بينها الإمبراطوريات المصرية والفارسية والرومانية والبيزنطية والأموية والإفرنجية والمملوكية والعثمانية والبريطانية. وهذا ما عبّر عنه المؤلفون بقولهم «لا تنتمي القدس لنفسها، لا توجد القدس في القدس، وإنما القدس مدينة عالمية، مدينة اعتاد العالم أجمع على الالتقاء فيها كنقطة مواجهة وتصدّ وتقييم لقوة بعضهم بعضا".

كانت المدينة المقدسة دُرَّة تاج الإمبراطوريات في أنحاء العالم شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا. فنجد أن أعظم آثارها، قبة الصخرة، قد بناه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، بينما شيّد الصليبيون القلعة الموجودة عند قاعدة ما يُسمَى برج داوود، وأنشأ سور المدينة السلطان العثماني سليمان القانوني، وكان البريطانيون أول مَن استخدم حجر القدس في البناء وأنشأوا بعضًا من أروع الكنوز المعمارية في المدينة، مثل: متحف روكفلر، وقصر المندوب السامي.

ورغم أن هذا الكتاب لا يتطرق إلى أكثر من ذلك، فإننا نودُّ أن نضيف أن دولة إسرائيل عملت على تقبيح المدينة وطمست طابعها الحيوي متعدد الثقافات الذي تمتعت به في السابق. ويُعَد متحف التسامح — المبنى الأثري الذي تكلَّف نحو مليار شيكل (نحو 273 مليون دولار حاليًّا) وشُيِّد على بقايا آثار مقبرة للمسلمين في وسط المدينة — يُجسِّد محاولة فاشلة لتحويل القدس المعاصرة إلى مدينة منفتحة ومتسامحة.

في الوقت نفسه، لم يحاول لومير والمؤلفون الآخرون رسم صورة حالمة لمدينة قدس عالمية. فيتسم الطابع متعدد الثقافات للمدينة ببعض السمات الفردية. وعلى الرغم من أن العديد من الإمبراطوريات حاربت من أجلها وشيّدتها، فإنَّ معظم حُكام هذه الإمبراطوريات فضّلوا عدم الإقامة فيها، بل وحتى زيارتها. الإسكندر الأكبر، قسطنطين، شارلمان، وسليمان القانوني لم يزر أيٌّ منهم القدس. وحتى عام 1964، لم يزر أيُّ بابا المدينة أيضًا.



وقد تعلَّم المسيحيون حيلة مثيرة للاهتمام، ألا وهي تحويل القدس إلى رمز ونقلها إلى بقاع مختلفة حول العالم، بدءًا من لاليبيلا في إثيوبيا التي لُقِبت بالقدس الجديدة وصولًا إلى بلدة "جوراليسم" في ولاية نيويورك. ومن ثم، فإن القدس الفعلية لن تفي أبدًا بالتوقعات العالية المنتظرة منها.

القدس "أثر عالمي"، أثر يروي تاريخ المدينة، ولكنه سيظل دائمًا متشابكًا مع تاريخ العالم والتطورات اللاهوتية. وقد صوَّر لومير وبقية مؤلفي الكتاب المدينة أيضًا كمقبرة. فقصة المدينة، التي كتبوها، لا يمكن أن تُروى "دون النظر إلى المقبرة الجماعية الضخمة التي مثَّلتها المدينة على مر القرون للملايين من المؤمنين حول العالم". ويشير المؤلفون إلى أنه لا يوجد الكثير من المدن في العالم تمثل فيها المقابر، سواء الحقيقية أو المُتخيلة، آثارها المهمة. ولا تقتصر هذه المقابر على كنيسة القبر المقدس (كنيسة القيامة) فحسب، وإنما تشمل أيضًا قبر الحديقة، وجبل الزيتون، وقبر النبي داوود، وقبر أبشالوم، وقبر ياسون، وجبل هرتزل، وغير ذلك الكثير.

هذا فضلًا عن أنه على مرِّ التاريخ، نُقِل تراب المدينة إلى المقابر المسيحية واليهودية في أنحاء العالم. والقدس، وفقًا لما اتفق عليه مؤلفو الكتاب في وصف ختامي سوداوي، "مقبرة التاريخ". وأخيرًا، يتساءل المؤلفون ما إذا كان «موتى القدس المتزايدون باستمرار سيوافقون على أن يفسحوا مكانًا بينهم للأحياء، ويسمحوا لهم بكتابة فصل جديد من التاريخ المشترك بينهم؟"

صحيفة هآرتس

ترجمة "إرم نيوز"

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة ©️ 2024 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC