غضب 'الجزيرة' من المصالحة الفلسطينية
غضب 'الجزيرة' من المصالحة الفلسطينيةغضب 'الجزيرة' من المصالحة الفلسطينية

غضب 'الجزيرة' من المصالحة الفلسطينية

عدلي صادق

أوقعت أنباء المصالحة الفلسطينية ذعرا في قناة “الجزيرة” القطرية، فبادرت إلى تسمية الانفراجة المفترضة، قبل أن تنفرج وتُنهي الانقسام الفلسطيني بـ“مصالحة المضطرين”، وفي هذا اعتراف ضمني بأن طرفيْ الخصومة الفلسطينية، قد أعياهما الشقاق، وباتا في وضعية الاضطرار إلى اجتراح الحل الذي ينتشلهما من قاع البئر، ويُرضي الشعب الفلسطيني.

عندما نقول قناة “الجزيرة” فمعنى ذلك أننا نتحدث عن منبر الحلف الإخواني- القطري- التركي، الذي يلعب بفرضية المقاومة والأمنيات القصوى، وبطموحات تحرير فلسطين التي لا يمكن أن تجرؤ كلٌ من أنقرة والدوحة على التفكير فيه.

أما “الإخوان” الذين يتغاضون عن الفارق الكبير بين خطابهم ورؤية الأتراك والقطريين لطبيعة الصراع، فهم الواهمون أنهم سيفلحون في تسويق اتهاماتهم لمصر والإمارات حيال القضية الفلسطينية، وأنهم سينجحون مع “الجزيرة” وأنقرة، في إقناع الفلسطينيين بأن هناك خططا إقليمية لتصفية القضية الفلسطينية. فلا زال هؤلاء يتحدثون عن حل يُرسم لكي يلبي اشتراطات إسرائيل، وذلك كله من دون دليل، ومن دون أن ترى الدوحة وأنقرة والجماعة، البعرة التي تدل على البعير.

ردة الفعل المذعورة هذه، على أنباء المصالحة الفلسطينية، تدفعنا إلى تمحيص الدور الفعلي الذي لعبته الأطراف الثلاثة، تركيا وقطر و“الجماعة” على صعيد القضية الفلسطينية، وتدفعنا أيضا إلى تمحيص نتائج هذا الدور مُثلث الأضلاع، وأثره على حال الكيان الفلسطيني، وعلى شعب فلسطين في غزة.

فما الذي فعله هؤلاء، خلال السنوات العشر الماضية، أكثر من دفع حماس إلى خوض معارك غير متكافئة، في ظل الانقسام الفلسطيني؟

لا يختلف اثنان في أن المحتلّين مفعمون بالعدوانية وأن حكومتهم قد انقلبت على التسوية وتريد التمادي في الاستيطان. لكن مسلسل الحروب التي شنتها إسرائيل على غزة، ونحن هنا نتحدث بدءا من 27 ديسمبر 2008، كان كله نتاج فائض الاحتقان في غزة، فضلا عن فائض العدوانية لدى حكومة إسرائيل.

ففي كل مرة كان المحتلون يستفزون وحماس تُستدرج، بينما أنقرة مثلاً، على المستويين الدبلوماسي والعسكري، كانت في وارد الاستنكاف عن العمل الجاد، لكبح جماح صديقتها إسرائيل، بل ولا تقدم النصح لحماس لكي لا تستدرج، كأن تركيا الأردوغانية، ذات الجيش الكبير في الإقليم، ليس فيها جنرال يفتح الخرائط أمام ضباط حماس، ليقدم شرحا للمعطيات الميدانية، ويبرهن على أن الوقوع في أفخاخ هذه الحروب ليس سوى مغامرات يدفع الفلسطينيون ثمنها باهظا. كان الإعلام واللغة السياسية والتسميات الطنانة لأداء المقاومة، في قطر وتركيا وفي أوساط “الإخوان” تثابر كلها على تغذية ارتجاعية لفكرة الذهاب إلى الحرب، مثلما يجري في أوساط حكومة اليمين العنصري الصهيوني الإرهابي المتطرف، الذي اتخذ من الحروب العدوانية سياسة وحيدة.

كانت مصر، في يونيو 2008 قد توصلت إلى هدنة لمدة ستة أشهر بين إسرائيل وحماس في غزة. وفي الحقيقة نكثت إسرائيل تعهداتها ولم تلب للطرف الفلسطيني أي متطلب من متطلبات تخفيف الحصار، ما أحرج حماس وجعلها تعلن رفضها تجديد الهدنة التي تنتهي يوم الرابع من نوفمبر 2008.

وكان موقف حماس صائبا في أسبابه، لا سيما لأن تجديد الهدنة يعادل الرضوخ ويحشرها في الزاوية. غاب وقتها الجميع، ولم تجر اتصالات جدية من قبل الأطراف التي يمكنها الضغط على حكومة إسرائيل بحكم علاقاتها مع تل أبيب. وكأن الأتراك والقطريين يريدون أن تصل الأمور إلى أقصى مداها العنفي الذي يدمر غزة، وأن تشتعل الحرب، على أن يكتفي الآخرون بالديماغوجيا، وبتسويق تسمية الحرب فرقانا.

ويتذكر كاتب هذه السطور، أنه تحدث في مقابلة على شاشة التلفزة الفلسطينية، وقال لحماس، إننا معكم في عدم تجديد الهدنة ومع العمل الدبلوماسي للحث على جهود إقليمية ودولية لكبح جماح إسرائيل والضغط عليها لكي تلبي اشتراطات الهدنة التي بدأت قبل ستة أشهر، ولكن ننصح بعدم إطلاق الصواريخ، بمعدلات حرب شاملة، حتى وإن حاول العدو استدراجكم. ويمكن للمقاومة أن تكتفي بتعرضات ميدانية. لكن الذي حدث يوم الجمعة 19 ديسمبر 2008 أن الجانب الفلسطيني بدأ بإطلاق زخات كثيفة من الصواريخ نفسها التي تعتبرها حماس اليوم كارثية، فبدأ العدو بالحشد على حدود غزة، وقبل ظهر يوم “السبت الأسود” الموافق لـ27 ديسمبر 2008 شن المحتلون عملية عسكرية شاملة، أسموها “الرصاص المصبوب” أسفرت في أسبوعها الأول عن استشهاد 1417 فلسطينيا من بينهم 412 طفلا و111 امرأة و962 مدنيا و5450 جريحا، مع تدمير بيوت ومساجد ومدارس ومرافق عامة بالألوف.

في ذلك الخضم، وأثناء تلك الحرب، التي وقعت بعدها حروب مهولة على غزة، وعندما كان منسوب الدم يرتفع والإدانات الدولية لجرائم الحرب الإسرائيلية تتكثف، بثت قناة “الجزيرة” تحقيقا مصورا عجيبا، يعرض بالصوت والصورة تفصيلات لبُنية عسكرية فلسطينية في غزة، موجودة تحت الأرض: مقرات لإدارة العمليات، وشبكات اتصال، ومعامل إنتاج صواريخ، وساحات تحت الأرض، تُختبر فيها فاعلية الصواريخ المضادة للدروع، وقاعات للتدريب. وقد بدا من خلال التحقيق المتلفز، أن هناك في غزة مدينة فوق الأرض، وعالما آخر يشبه كوريا الشمالية تحت الأرض.

وقد انزعج الفلسطينيون الذين يفهمون محمولات تلك الرسالة الإعلامية، ورأوا أن محصلة تحقيق “الجزيرة” لن يكون سوى تخفيف حجم الإدانة الدولية لإسرائيل، لكي تتبدل الفكرة ويتبدل المنظار: فما دامت هناك كوريا شمالية في بطن غزة، لا لوم على المجرمين الذين يجعلون سقيفة الفقير الفلسطيني في غزة، ومسجده وداره، هدفا لأحدث وأعتى طائرات الحرب الأميركية الإسرائيلية.

انتهت تلك العملية يوم 18 يناير 2009 بنتائج أكثر إيلاماً للفلسطينيين بمفردات الموت والتدمير. وفي الثنايا ظهر الدوران الاستعراضيان، القطري والتركي، كل منهما في إهاب المُغيث ومضمد الجراح، ومرسل المعونات. لكن سياق التردي على كل صعيد ظل يتفاقم: لتعميق الخصومة إذ تتولى “الجزيرة” وغيرها إنتاج الحكايات اليومية عن نجاسة طرف وطهارة الطرف الآخر. وتردى النظام الوطني الفلسطيني ليصبح في الجيب الصغير لرجل افتُتن تاريخيا بقطر وبالقطريين، وهبوط المستوى السياسي الدولي للقضية الفلسطينية، وتفشي البؤس الفلسطيني في الحياة على كل صعيد. وهذا كله، هو ما تريد “الجزيرة” أن تحافظ عليه، وقد أغضبها أن يضطر المضطرون للذهاب إلى مصالحة!

العرب

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com