الشاعر الكويتي فهد العسكر
الشاعر الكويتي فهد العسكرمتداول

فهد العسكر.. أول شاعر كويتي يفوز بجائزة أدبية

كنا في شبابنا منجذبين إلى أغاني الفنان شادي الخليج التي كانت الإذاعة الكويتية تكرر بثها. وفجأة وجدنا أنفسنا في عام 1963 أمام أغنية جديدة له، مختلفة عن سابقاتها، من ألحان الموسيقار أحمد باقر. تلك كانت أغنية «كفي الملام» التي يقول مطلعها:

كفِّي الملام وعلِّليني.. فالشكّ أودى باليـقينِ

                  وتناهبت كبدي الشجونِ.. فمَنْ مجيري مِنْ شجوني

كانت هذه القصيدة وقتذاك غريبة علينا، إذ لم تكن عاطفية موجهة إلى الحبيبة بالمعنى المألوف، وإنما قصيدة يفوح منها الألم والمعاناة والخسارة والعزلة المريرة، ناهيك عن أنها كانت تخاطب الأم بلوعة وحرقة ويقول مطلعها:

أُمّاهُ قد غَلَبَ الأسى كُفّي الملامَ وعلّليني

                  اللَه يا أمّاهُ فيَّ ترَفّقي لا تعذُليني

أرهَقتِ روحي بالعتابِ فأَمسِكيه أو ذَريني

ولعل هذا هو ما دفعنا للبحث عن كاتبها لمعرفة حكايته، فعرفنا أن ما غناه شادي الخليج لم يكن سوى أبيات مختارة من قصيدة طويلة بعنوان «شهيق وزفير» نظمها في عام 1946م الشاعر الكويتي فهد العسكر، مخاطباً فيها أمه التي جاءته طالبة منه أن يشفق على حاله ويغير سلوكه ويقلع عن أفكاره المتحررة التي قاطعته على إثرها أسرته وحاربه مجتمعه، حيث كانت أمه الوحيدة التي لم تقاطعه وظلت على اتصال به، فيما الآخرون جميعاً ــ باستثناء بعض أدباء ومثقفي زمنه ــ سلوا سيوفهم ضده وتطاولوا عليه، فقط لأنه آمن بأفكار غير مألوفة توخى من خلالها تحريك المياه الراكدة في مجتمعه من أجل النهوض به، موظفاً في ذلك موهبته الشعرية.

ولد فهد صالح محمد عبدالله علي العسكر الظفيري في سكة عنزة بالكويت سنة 1917 تقريباً، ابناً لأسرة محافظة نجدية الأصل كان رب الأسرة إماماً لمسجد الفهد ومدرساً للقرآن الكريم ومحصلاً للجمارك، فنشأ على تعاليم الدين وأحكامه، بل عـُرف في بداية حياته بتدينه ومواظبته على أداء الفروض الدينية على أكمل وجه.

أما دراسته فقد بدأها في الكتاتيب التقليدية ثم التحق بالمدرسة المباركية التي صار فيها مولعاً بقصائد المتنبي وأبي تمام والفرزدق، ما ساهم كثيراً في قدراته اللغوية لدرجة أنه بدأ يكتب الشعر ويؤسس لنفسه خطاً مختلفاً عن مجايليه في اللغة والأسلوب بإشراف معلمه الشاعر الكويتي محمود شوقي الأيوبي.

ومن المباركية انتقل للدراسة في المدرسة الأحمدية، لكنه تركها في عام 1930 ولم يكمل تعليمه. شغفه الشديد باللغة والأدب والشعر ساهم في بروزه لاحقاً كأحد شعراء الكويت والخليج الرواد، بل إن أدباء عصره ــ ومن بينهم صديقه الأديب المعروف عبدالله زكريا الأنصاري الذي كان أول من أصدر كتاباً عنه في عام 1956 ــ كانوا يترددون عليه ويعرضون أمامه أعمالهم طالبين رأيه ونصائحه.

غير أن شغف العسكر بالقراءة، من جهة أخرى، دفعه إلى الإطلاع والبحث في كل ما تقع عليه يده من الكتب الحديثة الفلسفية والدينية والسياسية والاجتماعية والنقدية، والمجلات الصادرة في القاهرة ودمشق وبغداد، من تلك التي كان يستعيرها بأجر رمزي من «مكتبة الرويح»، وهذا أثــر على مساره الفكري وآرائه في الحياة والعادات السائدة، وتبعاً لذلك تطور شعره باتجاه التجديد والتحرر من الموروث والانفتاح على العالم الخارجي.

فتحول من شاعر تقليدي محافظ إلى شاعر رومانسي ثائر على التقاليد الموروثة، حالم بمستقبل أفضل، شديد الجرأة في محاربة ثوابت المجتمع القديمة والمتعصبين من بني قومه، وهي الجرأة التي أوصلته إلى حدود التهور في كثير من الأحيان مما أسهم في تحريض أسرته ومجتمعه عليه، وإثارة غضبهما.

وهكذا رماه الجهلة من الناس بالزندقة والجحود والفسق، ولم يكن الرجل كذلك بدليل قصائد نظمها آنذاك تضمنت خلاف ما اتهم به.

وعلى إثر تلك الاتهامات، يقول صديقه الأنصاري «مله أهله واعتزلوه، وأصبح يعيش في وحدة تامة، مع خياله حيناً ومع كتبه حيناً آخر، وأصبحت حياته سلسلة من الآلام والأحزان انعكست على شعره». وقد عبر في إحدى قصائده عن حالة الاستياء والانعزال التي وصل إليها قائلاً:

نصيبك يا نفسي شقاء وحرمان

             وحظي من الأيام زور وبهتـــان

ولم يتوقف الأمر عند نبذه ومقاطعته والتطاول على شخصه وآرائه، بل قام أقاربه بحرق كتبه وأشعاره كي تنمحي سيرته ويطويها النسيان. ولولا احتفاظ أصدقائه ومحبيه القلائل ببعض قصائده لما وصلنا شيء منها. وفوق هذا وذاك عانى شاعرنا كثيراً بعد وفاة والده.

إذ وقف كل من شقيقه ووالدته حائلاً دون رغبته في الحصول على نصيبه من ميراث أبيه خوفاً من إسرافه، مما ضاعف أحزانه، فقرر أن ينفصل عنهما ويعيش وحيداً ويكرس وقته لكتابة الشعر، مع رفض قطعي لفكرة الزواج والإنجاب، حيث كتب صديقه «أحمد السيد عمر» في مقاله عنه ضمن الملف الخاص لمجلة العربي (العدد 243 ــ يناير 2004) من أنه حاول مراراً إقناع العسكر بالزواج وإنجاب أبناء يخلدون اسمه، فكان يرفض ويرد أن أشعاره هي أبناؤه وهي التي ستخلد ذكراه.

ويقال إن أحد أسباب بقائه عازباً هو تعلق قلبه بحب فتاة اسمها ليلى لم يستطع الزواج منها لأن أسرتها زوجتها لشخص ثري. وقد عبر عن غضبه مما حدث لها وله من خلال أبيات شعرية منها:

ليلى تعالي زوديني

            قبل الممات وودعيني

ليلى تعالي واسمعي

            وحي الضمير وحدثيني

وهكذا أكمل العسكر ما تبقى من عمره معزولاً في غرفة مظلمة في إحدى البنايات القريبة من «سوق واقف» وسط العاصمة الكويتية، وأخذت صحته في التدهور، وبدأ بصره يضعف، ولم يكن وقتذاك أطباء للعيون ليتولوا علاجه، كما لم يكن لديه ما يكفي من المال للسفر إلى بغداد من أجل العلاج، وهو ما تسبب في فقدان بصره في نهاية المطاف مثلما حدث لوالده، والمعروف أن والده صالح العسكر حينما ضعف بصره سافر إلى الهند للعلاج ثلاث مرات اصطحب معه في المرة الثالثة ولده فهد ذا السنوات الست، فعرف شاعرنا الهند وما بها من عجائب ومغريات وجمال وهو في سن الطفولة، وهذا قد يكون أحد مصادر إلهامه.

وفي خضم حياته البائسة المظلمة هذه، وتفاقم أوضاعه الصحية أشفق عليه شقيقه خالد العسكر، فجاءه ونقله للعلاج بالمستشفى الأميري الذي أمضى فيه نحو شهرين، فتك خلالهما مرض السل برئتيه، ليتوفى وحيداً في 15 أغسطس 1951 عن 34 عاماً، ولينقل جثمانه إلى مسجد المديرس للصلاة عليه، حيث لم يصل عليه إلا الشيخ عثمان عيسى العصفور وأحمد علي راشد العجيل وثلاثة من المصلين، وبعد الصلاة ووري الثرى في المقبرة العامة بجانب قصر نايف، ولم يجرؤ على حضور جنازته أي من أقاربه أو أصدقائه بمن فيهم صديقه عبدالله زكريا الأنصاري الذي نقل عن العسكر قوله له مراراً «لو كنتُ صاحب جاه أو مال فسيأتون إلى جنازتي بالطوابير، ولكنَّني لستُ كذلك، فلا أعتقد أنَّ أحداً سيحضر جنازتي، وأنتَ منهم يا عبدالله».قلنا إن فهد العسكر، بفضل مطالعاته ونهمه، نبغ في الشعر وكتابة القصائد في وقت مبكر من حياته، وبرز في وقت لم يكن في الكويت منافسون له.

وقرر أن يخرج من الكويت إلى بلد أجداده في السعودية، ومهد لذلك بنظم قصيدة امتدح فيها الملك المؤسس عبد العزيز (تولى غناءها وتلحينها المطرب الكويتي عبد اللطيف الكويتي) وأرسلها إلى الملك عن طريق وكيل الملك في الكويت الحاج عبدالله بن حمد النفيسي. وكان العسكر منذ تركه الدراسة ينظم القصائد الوطنية وغيرها وينشرها في مجلة «البعثة» الكويتية وبعض الجرائد العراقية والبحرينية، ما جعل قصائده منتشرة يسمع بها الناس داخل بلده وخارجها.

وفي هذا السياق ذكر عبدالله خلف في صحيفة الوطن الكويتية (21/2/2013) أن شاعرنا كان معجباً بالملك عبد العزيز ويتمنى لقاءه لأنه فرض الأمن على كل طرق المملكة المتصلة بدول الجوار، وأخضع القبائل المتناحرة، وقام بتغيير الخريطة الاجتماعية في المنطقة.

ولم يطل انتظاره بعد أن قرأ الملك قصيدته، فدعاه لزيارة الرياض. وعليه سافر العسكر إلى هناك عن طريق البحرين، ومن البحرين انتقل إلى الأحساء حيث استضافه أميرها عبدالله بن جلوي. أما في الرياض فقد أكرمه الملك عبد العزيز وعهد إليه بتدريس ابنه الأمير محمد الذي كان وقتذاك يقيم في جنوب المملكة، وبتوظيفه كاتباً في ديوان الأخير.

ويقول عبدالله زكريا الأنصاري في كتابه عنه إن العسكر اشتاق إلى حياة المدن التي تعودها فاستأذن الأمير محمد بن عبد العزيز للعودة من حيث أتى. وبالفعل رجع إلى الكويت بعد أن حصل على تكريم الملك عبد العزيز.

كتب الكثيرون عن شعره، فوجدوا فيه صدق التعبير ودقة الأحاسيس عن اللوعة والغربة والأفكار الجريئة والحلم بوطن ومجتمع جديدين خاليين من الخرافات والتقاليد المعيقة للانفتاح والتغيير، كما وجدوا فيه عمق السبك والحبك، مع الشعور الحاد والعاطفة الجياشة والذكاء الثاقب ومتانة اللغة وحسن التصوير وبساطة السرد.

فقد كان كفيف البصر لكنه متقد ونافذ البصيرة. ولعل أكبر دليل على علو كعبه في ميدان الشعر أنه فاز في المسابقة الشعرية التي نظمتها إذاعة لندن سنة 1945، عن قصيدة وصف فيها الحنين إلى الوطن بأسلوب جميل، فعُـــدّ بذلك أول كويتي يفوز بجائزة أدبية. غير أن البعض أخذ عليه عدم اهتمامه بجمع ونشر نتاجه من جهة، وزهده في نشر بعض قصائده من جهة أخرى، حيث علل شاعرنا هذا باحتوائها على ما قد يسيء لبعض الناس ورغبته في عدم إثارة خواطرهم وأنه «سيتركها للزمن يفعل بها ما يشاء» بحسب قول صديقه الأنصاري.

ولا شك أن هذا الزهد معطوفاً على ظروفه الشخصية تسبب في تأخر مكانته إعلامياً وثقافياً عن الطليعة الشعرية العربية، وأعاق ظهوره في المشهد الثقافي العربي كما يجب، خصوصاً وأنه كان يعيش في بيئة كويت ما قبل النفط بكل مظاهر انغلاقها مقارنة بالبيئات العربية الأخرى المنفتحة.

أما البعض الآخر فأخذ عليه طغيان الشك على نتاجه الأدبي، متناسياً أن الشك هو ملهم الفلاسفة الأول، وأن العسكر اعترف بنفسه أن الشك أساس حياته ومدارها ومحدد سلوكه وتصرفاته، علماً أن صديقه وملازمه الأديب الكويتي الراحل عبد الرزاق البصير كتب عن هذا في مقاله المعنون «من شعراء الكويت: فهد العسكر» في العدد 71 من مجلة العربي الصادر في عام 1964 قائلاً: «تبقى قضية سلوكه الغريب، فإني أرى أن كثيراً من الشعراء والقصاصين الموهوبين لابد أن تكون فيهم هذه العادات الغريبة».

والبعض الثالث، مثل الدكتورة نورية الرومي، التي لئن وصفته ــ خلال أمسية ثقافية أقامتها رابطة الأدباء الكويتيين في أبريل 2017 ــ بـ «رائد التنوير ومنصف المرأة، الذي لم يفهمه مجتمعه فتعرض للتعذيب»، وأشادت بموهبته الشعرية ووطنيته وبقصائده المتميزة بجمال اللغة والرمزيات، إلا أنها في كتابها «الحركة الشعرية في الخليج العربي بين التقليد والتطور» أخذت عليه تركيزه في كل قصائده على الشكوى والتبرم والقلق الوجداني، واصطباغ أعماله بالدموع والبكاء والعويل والاحتجاج.

صحيفة "البيان" الإماراتية

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com