جدل القمة والقاع
جدل القمة والقاعجدل القمة والقاع

جدل القمة والقاع

موسى برهومة

ليس مفاجئاً اهتمام روّاد «السوشيال ميديا» بالأخطاء والهفوات والمفارقات التي حصلت في القمة العربية في البحر الميت في الأردن، وإغفالهم البيان الختامي، أو توصيات المؤتمر الذي جمع أغلب قادة العرب ومقرّري مصائرهم.

ومع أنّ الأردن قدّم جهداً لوجستياً مدهشاً في ظرف زماني قياسي جعل القمة «كاملة الأوصاف» من حيث الترتيبات والجهود التنظيمية، إلا أنّ القمة كحدث لم تستقطب الاهتمام الشعبي، ما يعكس الهوة السحيقة بين القمة والقاع.

وقد تكون للانطباعات السلبية المسبقة حول القمم العربية، بشكل عام، أثرها في تكوين المشاعر العدمية التي تستبطن يأساً من إمكان التغيير، أو دفع عجلة «الحلم العربي» إلى الأمام.

ولم يكن الأستاذ على علم بانقطاع الصلة المبرم بين القمة والقاع، إلا حينما سأل طلبته في الجامعة عن القمة، ففتح أكثر من 95 في المئة منهم أفواههم مستغربين، فهم لم يسمعوا بالقمة ولا بموعد انعقادها أو مكانه، بل لربما أنهم لا يعرفون ماذا يعني مؤتمر القمة أصلاً، ما يستدعي إلى البال الطرفة الشهيرة عن الذي سُئل عن تخصصه فقال في الهندسة الميكانيكية، فلما طُلب منه أن يحدّد المكان الذي تخرّج فيه قال: جامعة الدول العربية!

ولعدم المعرفة بالشيء معنيان، إما الجهل، وإما التجاهل. وكلا النتيجتين ماثلتان في تلاشي اكتراث الناس بالقمة العربية التي حين يعرفون عنها، يعودون إلى تكرار المعزوفة ذاتها عن «الآمال المعلّقة» على اجتماعات كهذه، ما دامت الإرادة غير موحدّة، والصفّ غير مرصوص.

وما يجعل تلك الآراء، على سطحيتها، جديرة بالنظر إليها ولو باهتمام ضئيل أنها لا تخالف الواقع في المآلات النهائية، فقد أصغى المراقبون إلى بيان ختامي في قمة البحر الميت يمثل الديباجة الأساسية لأغلب القمم الأخيرة، مع تغيير في الأسماء، وزيادة رقعة الدول المنكوبة التي يتعين «مطالبة الجهات والمؤسسات والهيئات الدولية، وهيئات حقوق الإنسان بتحمل مسؤولياتها» والتدخل الفوري لإنقاذها ووقف النزيف في عروقها.

ولو حدّق المراقب، بعينه الفنية التحليلية في وقائع القمة، لرأى أنّ عبارة «رأب الصدع» هي الأكثر تعبيراً عن التفسخات البينيّة في المواقف والرؤى والاصطفافات، ما يجعل الإجماع العربي متحقّقاً فقط في الاحتفاظ التاريخي بتلك الخلافات التي بدأت ندوباً، فأضحت جروحاً متقيّحة تفتك بـ «الجسد العربي».

وفي حين يعكس التئام القادة السنوي أو الدوري «عافية» ظاهرية توحي بالقوة والمنعة، وأنّ القوم على قلب رجل واحد، إلا أنّ الواقع ليس كذلك. وهذا يجري بخلاف الإيقاعات العالمية التي تعزف لحن التوحد والانصهار والتكتل، فيما نستعيد نحن بناياتنا الحزينة ألحانَ الانفصال، ونتلذّذ بأغنياتنا الحماسية التي تصوّر كل قطر وكأنه إمبراطورية مترامية الأطراف، حصينة الحدود بجيشها الجرّار الذي يتوعّد الغزاة بالويل والثبور وعظائم الأمور. وأما الغزاة فتحديدهم ملتبس كالتباس مفهوم «العدو التاريخي» الذي لم يأت أحد على ذكره هذه المرة، وتلك علامة على زمن عربي يتماهى فيه مع عدوّه، ويبحث عن أعداء آخرين من بني جلدته.

ولو كنتُ صانع قرار في طهران أو في تل أبيب أو في واشنطن أو على تخوم «داعش»، لمددت قدميّ، كما فعل أبو حنيفة، ولرحت أهتف مع الشاعر العربيّ جرير: «زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً، فأبشر بطول سلامة يا مربعُ»..!

الحياة

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

Related Stories

No stories found.
logo
إرم نيوز
www.eremnews.com