بعض من معركة الوعي العربي!
بعض من معركة الوعي العربي!بعض من معركة الوعي العربي!

بعض من معركة الوعي العربي!

المشهد العربي أقل ما يمكن ملاحظته فيه أنه منقسم، سواء في البلد الواحد أم بين الدول، و الانقسام قادم أساساً من الموقف تجاه القضايا العامة المطروحة على الساحة العربية، وهي إما محلية كالقضية الفلسطينية وما جاورها من قضايا لها علاقة بالصراع الداخلي في كل بلد، أو دولية كالحرب في أوكرانيا و ما جاورها من قضايا الاصطفاف بين الشرق و الغرب. وهو انقسام في أساسه معرفي وفي فرعه الكبير كيفية تشكل الوعي، وهو مرضي وليس صحياً! لذلك فلا توجد في الغالب منطقة وسط يمكن الركون إليها من أجل فهم المشكلة التي تناقش، ومن ثم التوافق عليها باقل التكاليف.

تلك مقدمة أريد ان اضع تفاصيلها في بعض المظاهر العليلة للوعي العربي:
أولاً: جاء من مصدر إعلامي فضائي منتشر بين المتلقين العرب الآتي: إن طهران أرسلت إلى إسرائيل عبر دولة أوروبية صوراً و خرائط لمخازن الأسلحة النووية الإسرائيلية. ويكمل الخبر أن معظم الصور أرضية و ليست فضائية، ووضعت إشارات حمر على جدران مواقع الأسلحة الإسرائيلية. ويضيف أن طهران أكدت أن المخازن و المنشأت ستكون هدفاً إذا قررت إسرائيل إشعال حرب! ووصلتني مع الخبر إشادة ضحمة على هذه الخطوة من أشخاص لا اشك في سلامتهم العقلية. إذاً الخبر من مصدر عربي واسع الانتشار هدفه الشارع العربي المتعطش إلى أي إشارة الى حرب وربما التخلص من إسرائيل نهائياً.

إلا أن التوقف العقلي و العلمي عند هذا الخبر المفرح لمعظم من وزعه، بمن فيهم محرر الخبر (الهمام) أن لا دولة فيها ذرة من عقل تفصح لعدوها أين ستكون ضربتها، بخاصة ان العداء بينهما ليس سراً فهو معروف، ثم إن كانت الصور،كما ذكر الخبر، أرضية فهناك من التقطها ،وهي إشارة الى أن بينكم جواسيس ابحثوا عنهم !! طبعاً الخبر برمته لا يصدقه عاقل، حتى لو كان لا يعرف شيئاً عن استراتيجية الحروب. على سبيل المثال حشدت روسيا عشرات الآلاف من جنودها بدءاً من مطلع هذا العام على الحدود الأوكرانية، وفي الوقت نفسه كانت تؤكد للقاصي و الداني أنها لن تقوم باجتياح الدولة الجارة حتى آخر لحظة، فالحرب جزء منها خدعة. لم يتوقف منشئ الخبر و لا موزعه و لا مستقبله أمام تلك الحقائق البسيطة في التفكير وساقه عجزه الفكري إلى أن يؤكد لنفسه وعياً زائفاً أراد تصديقه لإراحة نفسه !

ثانياً: المثال الثاني الذي تمكن ملاحظته ان معظم مؤيدي الاجتياح الروسي لأوكرانيا من العرب، يركزون في كتاباتهم على المهنة السابقة للرئيس الاوكراني وهي ممثل!! وهنا يتضح الازدراء الثقافي المقرون بالجهل، فواحد من أهم حكام أميركا، رونالد ريغان كان ممثلاً درجة ثانية، وكثير من زعماء العالم كانت لهم مهن بسيطة، حتى السيد فلاديمير بوتين عمل في جزء من حياته سائق تاكسي، كما عمل رئيس وزراء بريطانيا الأسبق جون ميجور قاطع تذاكر في الحافلات العامة! وتلك امثلة من غيرها كثير.

الى جانب كل ذلك، فإن السياسي لا بد من ان يجيد التمثيل!! ومعظمهم كذلك، على المستوى الأدنى او على المستوى الأعلى! والحط من قدر رئيس الجمهورية الأوكرانية باعتباره ممثلا سابقا له ربما صداه السلبي في الثقافة العامة التي تعتبر ان التمثيل مهنة يُعيب بها، و يدل ذلك الى غفلة ثقافية للقائل اكثر منها عيب في السياسي! ولكن ذلك جزء من تغييب الوعي!

ثالثاً: المثال الثالث، الكثير مما يكتب في القضية الأوكرانية من جانب المعلقين العرب هو في الغالب كره للسياسة الأميركية و ليس حباً في السياسة الروسية!، وقد يكون لدى بعضهم الدافع المبرر لذلك، ولكنه مبرر عاطفي و ليس عقلانياً أو حتى مصلحيا على المدى الطويل، إلا أن هذا الموقف المؤيد هو خارج سياق العقل الموضوعي. صحيح ان هناك الكثير مما ينتقد في السياسة الاميركية، لا جدال في ذلك، الا ان نقطة الارتكاز هي اجتياح دولة لأخرى بهدف الالحاق و الضم! وهي سابقة لو تركت من دون مقاومة فان الخلل سيصيب كل العلاقات الدولية، ويصبح من حق دولة أقوى أن تجتاح دولة أضعف من أجل ضمها، تحت تلك الذرائع و هي كثيرة، ومنطقتنا هي الأكثر تعرضاً لتكرار تلك السابقة ان تركت من دون مقاومة. هنا اذاً ليس الموضوع حب الغرب أو كرهه، هنا قضية مبدئية تتحكم فيها المصالح لا العواطف! فلا وروسيا إن انتصرت ستحرر فلسطين ولا هي بقادرة على الدفاع عن الآخرين في أقصى الأرض، بل تقدم مصالحها أولاً، وقد تشجع من ترغب بفعل فعلها نفسه في أقاليم مختلفة، منها إقليمنا، حتى يتفرق الدم بين الشركاء !! فالموقف ضد الاجتياح هو موقف مع النفس وليس مع أميركا والغرب،كما انه موقف مضاد للشمولية.

الشمولية تريد الآخرين على مقاسها، لذلك تتدخل روسيا في الانتخابات الغربية ( الفرنسية و الأميركية) لتحويلها من ديموقراطية ليبرالية الى ديموقراطية لاليبرالية يسهل التحكم فيها من مجموعة صغيرة من البشر، كما تتدخل في سوريا وجزء من أفريقيا و أميركا الجنوبية، فمشروعها أكبر من أوكرانيا!

خلاصة الأمر في الأمثلة السابقة، وهي من بين الكثير من الأمثلة، أن تشكيل الوعي السياسي في فضائنا الثقافي في الغالب هو تشكيل عاطفي، يصدق ما يرغب فيه من دون إعادة فحص و عرض الموضوع على العقل حتى تتبين أسباب الانحيازات التي لا يبدو أن لها قريب حل، هي صور نمطية تتكرر ويتكرر الاصطفاف مع الشريك الخطأ، وكأننا بإصرار نعيد ارتكاب اخطائنا!!

النهار العربي

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com