تجليات "ثورة 17 تشرين" اللبنانية والنموذج الثوري الكوبي للتغيير
تجليات "ثورة 17 تشرين" اللبنانية والنموذج الثوري الكوبي للتغييرتجليات "ثورة 17 تشرين" اللبنانية والنموذج الثوري الكوبي للتغيير

تجليات "ثورة 17 تشرين" اللبنانية والنموذج الثوري الكوبي للتغيير

جمال دملج

ربما ليس من باب المبالغة القول إن أكثر ما يحتاج إليه اللبنانيون في الوقت الراهن يتركّز؛ أولاً وأخيراً، على وجوب إقناعهم بحاجتهم الماسّة إلى تبنّي نموذج ثوري فعّال يمكن أن يخلّصهم من تبِعات ومخلّفات تراكُم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتتالية تباعاً على إيقاع تكتكات الثواني في حياتهم اليومية، ولاسيما الأمنية منها التي تجلّت قبل عدة أيام في منطقة الطيونة في بيروت.

هذه الأزمة أعادت إلى الأذهان ما ترافق مع الحرب الأهلية (1975-1990) من مشاهد مروّعة وصور دموية، وكادت أن تتسبّب في إيجاد المبرّرات الكافية لتقريب موعد دقّ المسمار الأخير في نعش بلدهم، قبل أن يُوارى الثرى عن طريق دفنه في غياهب المستقبل المجهول.

اللبنانيون يعرفون تمام المعرفة أنّ "طائر الفينيق" الذي دائماً ما درجت العادة على أن "ينهَض من رماده"، أوشكَ بدوره على الانقراض تحت وطأة هذه الأزمات الوطنية المتتالية؛ بما فيها تلك التي اشتدّت إلى أقصى وأقسى الدرجات خلال العامين الماضيين، بذرائع مختلفة وبأذرع عديدة، سواء قبل انطلاقة ما يسمّى بـ"ثورة 17 تشرين الأول" عام 2019 أم في أعقاب انطلاقتها.

هذا الأمر الذي أصبح يُحتّم عليهم النظر بجدية إلى المغزى والمعنى الكامن بين حروف الشعارات التي رفعوها؛ ومن بينها شعار "كلّن يعني كلّن"، تمهيداً لتوفير المناخات الملائمة لطرح شعارات أكثر عقلانية من شأنها أن تُجنّب البلد من مخاطر الانزلاق إلى الدوامات التي لا تزال غالبية الدول العربية الشقيقة تتخبط في متاهاتها على خلفية التطورات المستجدة في سياق ما اتُفق على تسميته؛ مجازاً، بـ"ربيع العرب".

ولعل شعار "التغيير في إطار الاستمرارية" الذي رفعه الرئيس الكوبي السابق راؤول كاسترو لدى تسلّمه مقاليد الحكم في الجزيرة الشيوعية إثر مرض شقيقه الأكبر (الراحل) فيدل كاسترو أواخر شهر تمّوز \ يوليو عام 2006 يُعتبر من أكثر الشعارات اللافتة التي ينبغي على اللبنانيين النظر إليها بعقلانية، ولاسيما إذا وضعنا في الحسبان أنّ النظام السياسي اللبناني المعتمَد منذ ما يزيد عن المئة عام من الزمان قائم في الأساس على قواعد المحاصصة الطائفية والمذهبية بين المسلمين والمسيحيين في إطار "الصيغة الميثاقية" المعروفة.

هذا الأمر الذي يعني في المحصلة النهائية أنّ تبنّي شعار "إسقاط النظام" أشبه ما يكون بالمشي سيراً على الأقدام داخل حقل مفخّخ بكافة أنواع الألغام والعبوات الناسفة، وخصوصاً في بلد كان قد شهد في الأصل خلال عقديْ السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين حروباً شرسة أودت بحياة عشرات الآلاف من أبنائه، وكذلك من العابثين الخارجيين بأمنه وسيادته على حدّ سواء.

وعلى الرغم من أنّ مبدأ العقلانية المذكور لا يحمل في سياقه هنا أي تشكيك في نزاهة أو صُدقية المطالب التي نادى بها الحراكيون والحراكيات لدى النزول قبل عامين إلى ساحات وشوارع المدن الممتدّة على طول خارطة الجمهورية اللبنانية وعرضها، تماماً مثلما لا يستهدف في سياقه أيضاً الترويج لأي نيّة من شأنها أن توحي بأنها ترمي إلى تبرئة غالبية مكوّنات الطبقة السياسية الحاكمة والمتحكّمة في البلد منذ عشرات السنين من الذنوب التي اقتُرفت في ميادين الفساد بحقّ الوطن.

إنّ العبرة التي ينبغي على اللبنانيين أن يضعوها على رأس قائمة أولوياتهم مع حلول موعد الذكرى السنوية الثانية لانطلاقة "ثورة 17 تشرين الأول"، اليوم الأحد، تتمثل في وجوب التركيز على الهوامش الضيقة ما بين الصح وما بين الخطأ في فضاءات الشعارات المطلبية التي تمّ رفعها، ولا سيما إذا أخذنا في الاعتبار مسألة في غاية الأهمية مؤدّاها أنّ سعر صرف الدولار الأمريكي خلال مرحلة ما قبل انطلاقة "الثورة" كان ثابتاً عند سقف الألف وخمسمئة ليرة لبنانية بينما تجاوز لاحقاً سقف العشرين ألفاً.

علاوة على ذلك، فإنّ مَن يُوصفون بـ"حيتان المال" كانوا يشعرون لغاية يوم السابع عشر من شهر تشرين الأوّل \ أكتوبر) العام 2019 بالاطمئنان على ثرواتهم داخل المصارف اللبنانية خلافاً لما راحوا يشعرون به لاحقاً عندما بدأوا بتهريب تلك الثروات إلى الخارج، بما فيها أموال المودعين اللبنانيين الصغار، الأمر الذي تسبّب في إحداث أسوأ الكوارث الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها البلاد في تاريخها القديم والحديث.

وإذا كان التاريخ اللبناني قد سطّر على صفحاته حيثيات الكثير من المراحل المشرقة، ومن بينها على سبيل المثال وليس الحصر ما دأبت إحدى المسؤولات الرسميات النرويجيات في وزارة الخارجيّة في أوسلو على التحدُّث عنه بشأن مرحلة عملها كمضيفة طيران على متن الخطوط الجوية لبلادها خلال أواخر الستينيات وبدايات السبعينيات من القرن العشرين، وخصوصاً عندما تركّز على القول إنّ زميلاتها المضيفات كنّ يتنافسن مع بعضهنّ البعض من أجل المشاركة في الرحلات المتجهة إلى بيروت بغية التمتّع بالأجواء اللبنانية.

إنّ الأمانة الأخلاقية تحتّم علينا أن نقول اليوم إنّ اللبنانيين أنفسهم لم يُسبّحوا ربّهم بحمْد هذه النعمة، ولا سيما بعدما راحوا يفقدون السيطرة بالتدرُّج على دفّة القيادة في سفينتهم المتجهة؛ بالتدرُّج أيضاً، صوب الأقدار الجهنّمية المحتّمة منذ سنوات حربهم الأهلية ولغاية يومنا الراهن.

أقدارٌ، وإنْ كان الرئيس اللبناني العماد ميشال عون نفسه قد وصف وجهتها العام الماضي بأنها تقود إلى "جهنّم"، ولكن الأمانة الأخلاقية أيضاً تستوجب التأكيد على بديهية مؤدّاها أنّ لدى الحراكيين والحراكيات في لبنان ما يكفي من القدرة لتحويل إبرة بوصلتها صوب الاتجاه الصحيح والمعاكس لاتجاه جهنّم إذا ما أخذوا في الاعتبار أنّ شعار "التغيير في إطار الاستمرارية" يفوق أهمية؛ بجدواه التكتيكية، على شعار "إسقاط النظام"..

وهذا وخصوصاً داخل بلد وصل الورم الطائفي والمذهبي والكيدي في أوساط غالبية أبنائه حتى النخاع، فضلاً عن أنه غارقٌ أصلاً حتى الأذنين في بحور العتمة والمديونية والمحسوبية والاستزلام والانقسام والارتهان تحت راية "الميثاقية التوافقية" من دون ثورات سلمية أو مسلّحة ولا من يحزنون.

على هذا الأساس، وبالنظر إلى دلالات القول المأثور عن أنّ "ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأملِ"، في المعنى والمغزى على حدّ سواء، فإنّ ما ينبغي على الحراكيين والحراكيات فعله مع حلول موعد الذكرى السنوية الثانية لانطلاقة "ثورة 17 تشرين" يتمثّل في وجوب التمسّك بـ"الأمل" عن طريق الاعتماد على مبدأ "التغيير في إطار الاستمرارية" وليس العكس..

كل هذا انتظاراً لموعد إجراء الانتخابات البرلمانية العام المقبل، وتفادياً لحدوث ما يمكن أن يندرج في سياق "الآتي الأعظم" على خطوط التوتر العالي بين القوى المحلية المتصارعة بين بعضها البعض على الساحة الداخلية اللبنانية، على شاكلة ما شهدته منطقة الطيونة في بيروت قبل عدة أيام، وإنما بأساليبَ أكثر دموية يمكن أن تسفر هذه المرة عن نتائجَ أخطر بكثير ممّا آلت إليه الحرب الأهلية نفسها.

وللتنويه هنا، فإنّ شعار "التغيير في إطار الاستمرارية"، وإنْ كان راؤول كاسترو هو الذي رفعه في الأصل، ولكنه شعارٌ تمّ اعتماده خلال مرحلة حُكم الزعيم التاريخي الكوبي (الراحل) فيدل كاسترو بينما كان لا يزال على قيد الحياة، وخصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار، على سبيل المثال وليس الحصر، أنّ العقوبات الأمريكية المفروضة على بلاده منذ مطلع ستينيات القرن العشرين لم تحُل دون إصدار موافقته في أواخر التسعينيات على دخول كوبا في مشروع مشترك مع مؤسسة إسرائيلية لإنتاج النبيذ المحلي، على غرار ما فعله الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف في التسعينيات أيضاً عندما وافق على دخول أوزبكستان في شراكة مع مؤسسة إسرائيلية مشابهة في مشروع مماثل، الأمر الذي قُدِّر لي أن أطّلع عليه بالعين المجردة عندما زرتُ طشقند عام 2001 وهافانا عام 2006.

ولعل العبرة في فحوى ما تقدَّم، بصرف النظر عن الدلالات المتعلّقة بهوية المؤسسة التي دخل الكوبيون والأوزبكيون في شراكة معها، تتمثل في أنّ عجلة الإنتاج إذا ما قُدِّر لها أن تتحرك في أي دولة، فإنها ستساهم في بناء اقتصاد معافى يوفّر للمواطنين الرخاء والأمان والاستقرار... وما أحوجنا؛ نحن اللبنانيين، إلى هذه العوامل الثلاثة مجتمعة من أجل ترسيخها في بلادنا، وبالتالي، ما أحوجنا لكي نتمكن من تحقيق ذلك إلى أن نتذكر في الوقت الحالي؛ وهنا الأهم، ما جاء يوماً على لسان الراحل فيدل كاسترو عندما قال إنّ "الفكر أقوى من السلاح".

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com