عن الجزائر وحركة فرحات مهني وشططها البليغ
عن الجزائر وحركة فرحات مهني وشططها البليغعن الجزائر وحركة فرحات مهني وشططها البليغ

عن الجزائر وحركة فرحات مهني وشططها البليغ

عدلي صادق

ربما تترك هذه السطور، للوهلة الأولى، انطباعا بأن كاتبها الذي يركز على أحداث المشرق العربي؛ قد انتقل إلى بعيد، كي يسلط الضوء على أحداث متفرقة، تندرج في خانة الحدث الجزائري، وقليله داخل ذلك البلد الوازن، والمناصر تاريخيا للقضايا العربية والأفريقية، وكل قضايا التحرر. لكن الأمر ليس مسألة ابتعاد، حتى عندما يتعلق بما يُسمى حركة استقلال القبائل أو تقرير مصيرهم في الجزائر، وهي ما يرمز إليها بجمع أوائل الحروف: حركة “ماك”.

لا بد من الاعتراف بأن تركيز إعلام قطر، بلغة سلبية، على الحدث الجزائري الراهن؛ كان لافتا ومستفزا ويحث على كتابة هذه السطور من خلفية استغراب تقصد بلد يريد أن يتماسك ويستعيد دوره. وللأسف، يستغل الإعلام القطري، الحراك الشعبي للاستمرار في هذه الوجهة، ظنا منه أنه يرفع شأن الطيف الحزبي الإسلامي فيها. وإن كان التأويل، سيأخذنا إلى التذكير بمفارقة في هذه المسألة، يصح القول إن تأجج امتعاض القبائل الأمازيغية الجزائرية، بعد استرضائها في العام 2002 بقرار مساواة اللغة الأمازيغية باللغة العربية الرسمية؛ كان بسبب الأعمال العنيفة التي ارتكبها الإسلاميون في الجزائر، ضد رموز فنية وثقافية جزائرية أمازيغية، ما جعل شريحة من النُخب من هذا المكون العرقي، تسجل ردود أفعال مناوئة للعرب جميعا، جزائريين وغير جزائريين، حتى بلغ الأمر بالعازف الموسيقي والمغني الاحتجاجي فرحات مهني، أن يقول في إسرائيل عندما زارها في العام 2012 إنه يتضامن بقوة مع الدولة العبرية، ويتحدث عنها وكأنها مهددة ومستضعفة ـ بينما هي قوة إقليمية ضاربة ـ ويقارن وضعها بمنطقة القبائل الأمازيغية في الجزائر، معللا ذلك بكون “البلدين” ـ حسب تعبيره ـ إسرائيل والأمازيغ “محاطين ببيئة عربية معادية، ويشتركان في المسار نفسه مع فارق وحيد، وهو أن إسرائيل موجودة بالفعل!”.

لم يكن أحد ينتظر من مهني كلاما بأي قدر من المنطق السوي، أو أن يتلو على الناس صفحات من تاريخ الأمازيغ الشجعان الذين كان لهم الفضل في حفظ اللغة العربية طوال 132 سنة من الاحتلال الفرنسي للجزائر. فقد كان للقبائل الأمازيغية فضلها في اعتماد لغة القرآن في كتاتيبها ومساجدها في داخل المناطق الجبلية، بعد أن آلت الأمور إلى الثقافة الفرنسية في مناطق الساحل. وربما لا يعرف المغني، كمحض عازف ومنشد احتجاجي، لا اهتمام ولا علاقة له بالتاريخ؛ أن حُماة اللغة العربية العظام، كانوا من الأمازيغ، بل كانوا من القبائل الكبرى، وأن عبدالحميد بن باديس، الذي يُعد من رجال الإصلاح في تاريخ العالم العربي، كان أمازيغيا، وهو مؤسس “جمعية العلماء المسلمين” وهو القائل في مطلع قصيدته الشهيرة التي يحسم فيها هوية الجزائر:

شَعـبُ الجـزائرِ مُـسْـلِـمٌ

وإلى الـعُـروبةِ يَـنتَـسِـبْ

مَن قــال حـادَ عَن أصلِـهِ

أَو قَـالَ مَـاتَ فَقد كَـذب

كذلك لا يعرف فرحات مهني، على الأرجح، أن شاعر العربية مُفدي زكريا، الذي درس في “الزيتونة” في تونس، أمازيغي من إثنية المزابيين الجزائريين الإباضيين، وهو مؤلف القَسَم الشعري الذي اعتمدته الجزائر المستقلة نشيدا وطنيا. وبالتأكيد هو لا يعرف أن حسين آية أحمد (1926 ـ 2015) الأمازيغي بامتياز، وأحد القادة الذين فجروا ثورة نوفمبر 1954 ومؤسس ورئيس “جبهة القوى الاشتراكية” في الجزائر بعدئذٍ؛ كان على قناعة بأن جذر الفلسطينيين عربي أمازيغي، وكان يقول ذلك لياسر عرفات كلما التقاه. وربما يكون أهم الأمثلة، هو تاريخ “الكاهنة” الرمز الأمازيغي الأول، التي احتضنت فكرة إدخال اللغة العربية وتعليمها، وبدأت بابنيها.

على الرغم من ذلك كله، فإن المشكلة ليست في الأعراق والطوائف والشعوب ولغاتها، وإنما المشكلة في الدسائس الاستعمارية وفي عجز أنظمة الحكم عن استيعاب شعوبها أو فهم معنى التعددية في الشعوب. فالأنظمة لا تزال تتهجى بصعوبة فكرة المواطنة المتساوية.

يصح أن يُفهم من المنحى الذي اختاره فرحات مهني لنفسه؛ أنه قد تعرض للسجن ثلاث عشرة مرة، وتعرض أيضا للتعذيب كما يقول، وأن ضحايا أحبابه ممن استهدفهم العنف الإسلاموي، كانوا من فناني الغناء والموسيقى الذين نذروا أنفسهم للتعبير عن طموحات القبائل الأمازيغية. فللتعسف أحيانا ردود أفعال تنقلب على الوطن نفسه، وقد حدث ذلك في الكثير من البلدان. بالمقابل، هناك من زادهم التعسف إحساسا بالوطنية العالية، واستطاعوا بثقافاتهم الفصل بين فعل النظام والشعب، فتسامحوا مع الأول أو تجاوزوا عن الأذى أو اختزنوا مراراتهم في قلوبهم مراعاة لأوضاع أوطانهم.

فإن كانت تجربة فرحات مهني الشخصية، قد مرت بآلام، فليس الجواب الصحيح هو محاولة اقتطاع جزء من الوطن للقبائل، وتأسيس ثقافة شعبية تعزز هذه المحاولة. صحيح أن الآلام الشخصية العميقة، لا يستطيع التجاوز لها إلا ذو الثقافة العميقة والضمير الحي الذي لم تدمره الخطوب. أما أمثال فرحات مهني، فإن ثقافته المحدودة، تذهب به إلى ما هو أسوأ من أخطاء النظام الذي يناصبه العداء، وتتساوى مع خطايا جماعات العنف الإسلاموي التي يمقتها المغني، مثلما تمقتها شعوب العرب والمسلمين!

في العام 2004 اغتال متطرفون ابنه الأكبر مزيان فرحات (19 عاما). بل هو نفسه استُهدف في محاولة اغتيال وقُتل أحد أحبابه في العام 1998 وهو مغني الراي الشاب حسني بالرصاص في وهران، كما قُتل بأيدي متطرفين إسلامويين، مطرب الاحتجاج الأمازيغي معتوب لونيس، الذي كانت الأوساط الشعبية الأمازيغية تلقبه بـ”أيقونة القبائل”. لكن الرجل الذي ذهبت به أوهامه إلى تنصيب نفسه رئيسا لحكومة ما يسميه “الدولة الأمازيغية” في المنفى، اختط لنفسه منهجا سياسيا منافيا حتى للمزاج الأوروبي الذي يعيش في كنفه. فحركته التي تأسست في فرنسا، لم تستطع قراءة اتجاهات الرأي العام الأوروبي فما بالنا بالرأي العام الجزائري والعربي، لذا كان منذ أيام غزو العراق، مؤيدا بحماسة لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، أثناء ولاية بوش الابن. ويرى الكثير من المراقبين ومنهم دينيس ماكوين، محرر فصلية “ميدل إيست” الأميركية نفسها (عدد فصل الربيع 2010) أنه من الخطأ الجسيم بالنسبة إلى فرحات مهني أن يؤيد سياسة الولايات المتحدة، بينما مسرح عمله ووجهة طموحاته، هو الوسط الشعبي المناهض للسياسة الأميركية. فلا يمكن، والحال هذه، أن تتحقق طموحات مهني وحركته، وهي النجاح في الخطوة الأولى، نحو “دولة القبائل الأمازيغية”. فالمسألة بالنسبة إلى الغالبية العظمى من الجزائريين، مسألة تتعلق بمصير الوطن الموحد الخالي من أي شكل من النزاع الأهلي، لأن بديل هذا الوطن، هو التفكك والنزاع المفتوح، لاسيما وأن الانتشار الأمازيغي واسع في جغرافيا بلدان المغرب العربي، ويمتد من ليبيا إلى المملكة المغربية.
نعود إلى التقصّد اللافت في الإعلام القطري ضد سياسة النظام الجزائري، بذريعة الحراك الشبابي المطلبي فيها. ربما لا يزال هذا الإعلام يتوهم أن قوى الإسلام السياسي، يمكن أن تحكم في أي بلد صغير أو شاسع. إن هذا أمر شبه مستحيل، وإن تحقق فسيفتح نزاعات أهلية لا تنتهي إلا بزواله، لأن منهجية هذه القوى، لن تستوعب التعدد الثقافي والعرقي والجهوي، وليس لديها ثقافة دولة، ولا برامج عمل سياسي تنبثق عن أيديولوجيتها. بل إن نسختها الفلسطينية لم تستوعب غزة، وباتت تفتش عن طرف فلسطيني آخر يعينها على حمل العبء الناشئ عن طبائع الحكم الحزبي فيها.

ولعل المثال الجزائري الأسطع، على ما نقول، هو ما حدث في الجزائر نفسها. فقبل الانتخابات التشريعية التي أجريت في ديسمبر 1991 سُمعت في الأرجاء شعارات تؤكد على أن “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” في حال فوزها وانفرادها بالحكم، لن تسمح بالتداول على السلطة، ورفعت لافتات في تظاهراتها تهاجم الديمقراطية باعتبارها مفهوما غربيا صليبيا، وقال خطباؤها علنا إن تفويضها سيكون من الله. ولم يستطع النظام تقدير حجم الفوز الذي ستحققه، كرد فعل شعبي على الفساد وعطالة الشباب ووقف مسار التنمية. كان التقدير في حال فوزها، في أسوأ تقديرات النظام، أن تحصل على أغلبية تساعدها على تشكيل الحكومة لكي يجربها الشعب، ويجري توريطها. لكن الزلزال جاء عندما فازت “الجبهة” بعدد يتجاوز الثلثين، يساعدها على تغيير الدستور. ولما حدث ذلك فعلا، اضطر الجيش لأخذ زمام المبادرة، فتباكى الإسلاميون على ما يسمونه “الانقلاب” بينما لو لم يقع ذلك الانقلاب لأضحت الجزائر ست دول، ولكان مثل فرحات مهني، رئيسا لإحداها، يخوض نزاعا مضنيا ومريرا مع “جيرانه” الصغريات، لدواعٍ تتعلق بترسيم الحدود وبمطالبات لا نهاية لها.

العرب

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com