تطبيع سعيد عقل
تطبيع سعيد عقلتطبيع سعيد عقل

تطبيع سعيد عقل

تاج الدين عبد الحق

بعيدًا عن البعد العنصري في مقاربة الشاعر اللبناني الكبير سعيد عقل، للقضية الفلسطينية إبان الغزو الإسرائيلي للبنان بقيادة وزير الدفاع آنذاك أرئيل شارون، الذي قام  باحتلال العاصمة بيروت في العام 1982، نحتاج إلى مراجعة للموقف السياسي لسعيد عقل، في ضوء التطورات السياسية الراهنة التي غيرت -اليوم-  معادلة الصراع العربي مع إسرائيل.

ولمن لا يعرف الشاعر عقل فهو من كتب القصيدة الخالدة زهرة المدائن التي غنتها المطربة العظيمة فيروز، ولحنها الأخوان رحباني، والتي جاءت بمنزلة ملحمة فنية جسدت المكانة الروحية والقومية للقدس في الوجدان العربي والإسلامي، وأكدت  حتمية مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للقدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية.

هو -أيضا- من كتب قصيدة "غنيت مكة " التي جاءت تحفة فنية في تعابيرها، وعميقة في معانيها، إذ أظهرت روح التلاحم بين المكونين الإسلامي والمسيحي في الثقافة العربية. هو كذلك من كتب قصائد في الشام لعل أبرزها "شآم ياذا السيف" التي تغنت بالقدرة العربية.

وفي موازاة هذا البعد القومي في شعر عقل، وما حمله من  مفردات ومعان. لم يتردد الشاعر الكبير في طرح مبكر لأفكار مثيرة للجدل، اعتبر فيها لبنان (أمَّة) مستقلة في ثقافتها ولغتها، رافضًا اعتبارها جزءًا من الأمة العربية.

كانت تلك الآراء صادمة للشارع العربي الذي كان يعيش واقعًا سياسيًّا مختلفًا، عبرت عنه شعارات سياسية وأيديولوجية ذات طابع قومي، وأحيانًا بطابع ديني عابر للقومية بل وأممي عابر للأديان والقوميات، مفرِدًا لمقولته تلك تاريخًا مستقلًا للبنان عن بقية العالم العربي، ومبتكِرًا أبجدية لغوية تعتمد في كتابتها على الحرف اللاتيني.

لم تَلقَ أفكار عقل وقتها، الصدى الذي يوازي شاعريته، لكنها لبنانيًّا وجدت من يتحمس لها ويروج لها، وتحمل هذا الفريق حينذاك، ذلك التوصيف الذي كان يَعتبر تلك القوى انعزالية، من الناحيتين السياسية والفكرية، وقوى متآمرة تعمل خارج السرب القومي.

لم تكن أفكار سعيد عقل ردة فعل لحدث سياسي، أو ظرف آني،  بل كانت مقاربة تاريخية وفكرية بدأت قبل الغزو الإسرائيلي للبنان، وقبل الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975.

كان عقل يرى أن إضفاء طابع قومي على الصراع مع إسرائيل، يحمل ضررًا للفلسطينيين أكثر مما يمكن أن يجنوه من فوائد، وما سيحققونه من نتائج.

كان يرى أن إشراك العالم العربي كله في المواجهة مع إسرائيل معناه (إضاعة دم الحقوق الفلسطينية بين القبائل)، وبين اجتهادات عربية مختلفة أو متصارعة، والتي سرعان ما انتقلت اختلافاتها، وصراعاتها للساحة الفلسطينة بشكل عطَّل قدرات الفلسطينيين عن استثمار إمكاناتهم الذاتية، وفوَّت عليهم فرصة مقاربة البعد الحقوقي العادل في قضيتهم، فضلًا عن أنه ربطهم بأجندات أيديولوجية، وقيادات سياسية عربية، أعاقت فرص استعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفوَّتت عليهم أي مقاربة تنسجم مع مصالحهم وقدراتهم الذاتية، خاصة بعد أن صورت تلك القيادات، أن  الإمكانات والسياسات العربية رهن إشارة الفلسطينيين والمحور الوحيد لاهتمام أقطارهم.

كان سعيد عقل يرى مبكرًا ضرورة أن يعمل الفلسطينيون بعيدا عن الاستقواء المادي بالعالم العربي؛ لأن ذلك يبالغ في صورة التهديد الذي تتعرض له إسرائيل، ويزيد من تعاطف العالم معها، ويعيق كل محاولة سياسية دولية لمعالجة القضية الفلسطينية بعد أن باتت مرتبطة بواقع عسكري وأمني زائف.

اليوم نحتاج إلى قراءة جديدة لأفكار عقل تلك، إذ سنجد أنها كانت متقدمة، في جوهرها، عن كل تلك الطروحات التي كانت تقول بمركزية القضية الفلسطينية في أولويات العمل العربي، ولنجد أننا أمام واقع جديد لا بد للفلسطينيين من التعامل معه بالقدرات الذاتية أولًا، لا "انتظار جودو " الذي سيأتي ولا يأتي.

ليس من مصلحة الفلسطينيين، بعد تزايد أعداد الدول العربية التي تأخذ خيارات وطنية خاصة، لوم العرب أو تخوينهم بسبب ما يعتبرونه أولوية لأوطانهم وبلدانهم، فالفلسطينيون كانت لهم أولويات وسياسات اصطدمت بأولويات وسياسات الآخرين. والإطار الحقيقي الذي يتعين التركيز عليه الآن هو الواقع الفلسطيني بكل أبعاده، ومحاولة اجتراح أساليب وأدوات لرسم خريطة طريق فلسطينية مختلفة، لا تعتمد على مقدرات لا يملكها الشعب الفلسطيني وليست لديه القدرة على التغني بها كما كان يفعل طوال سبعة عقود مَضت.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com