من التاريخ إلى السياسة في حكاية منظمة التحرير
من التاريخ إلى السياسة في حكاية منظمة التحريرمن التاريخ إلى السياسة في حكاية منظمة التحرير

من التاريخ إلى السياسة في حكاية منظمة التحرير

عدلي صادق

عطفاً على المقال الذي عرض فيه الزميل ماجد كيالي (العرب 2020/6/12) مقاربة مشروحة لكيفية استعادة دور منظمة التحرير الفلسطينية، والمصاعب التي يمكن أن تواجه هذه الاستعادة؛ يتوجب القول، على سبيل التعقيب، إن هذه المقاربة، وهي ذات وجهة منطقية موضوعياً، تبدو غير عملية، ليس بسبب خلل في صيغتها، وإنما لأسباب تتعلق ببنية النظام السياسي الفلسطيني المنشطر وحسب؛ وإنما أيضاً بسبب طبيعة “المنظمة” التي يُرجى استعادة دورها، والأوضاع المستجدة في بيئتها التي كانت حاضنة أيام صعود دورها.

نشأت منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964 وكانت فكرتها الأولى وليدة مؤتمر القمة العربي العادي الأول، الذي التأم في القاهرة مساء يوم 13 يناير 1961.

وعلى الرغم من أن ذلك المؤتمر كانت له دوافع طارئة أوجبتها خطة إسرائيل لتحويل مجرى نهر الأردن بهدف بناء ما تسمى “شبكة المياه القطرية” في إسرائيل، لإحياء صحراء النقب واستجلاب مليوني مستوطن؛ إلا أن مقررات المؤتمر أوحت بأن له ما بعده، بمعنى أن القمم ستكون متتالية، لاسيما وأن من بين تلك القرارات نفسها، هو الاتفاق على انعقادٍ ثانٍ، في سبتمبر من السنة نفسها، وقد انعقد فعلاً في الإسكندرية، وفي الفندق الجديد ـ آنذاك ـ الذي حمل اسم فلسطين.

أهداف النشأة
في لحظة افتتاح المؤتمر الأول، في السادسة من مساء يوم 13 يناير، في مقر جامعة الدول العربية، كان هناك رجلٌ احتار رجال البروتوكول في شأنه. فهو ليس رئيس دولة لكي يجلس متكئاً على طاولة الاجتماع، شأنه شأن سائر الزعماء. في الوقت نفسه، هو الشخصية الفلسطينية المعنية بموضوع الاجتماع، وهو الذي يمسك بالملف الفلسطيني في جامعة الدول العربية، التي لم تكن فلسطين عضواً فيها. ثم إن الرجل، وهو أحمد الشقيري، كان ضليعاً في الدبلوماسية، إذ عمل ممثلاً لسوريا ثم للعربية السعودية في الأمم المتحدة.

في ذلك المساء، خرج رجال البروتوكول من حيرتهم بتدبير معقول، وهو جعل أحمد الشقيري في موضع أمامي، على الطاولة، وحسب الترتيب الهجائي لأسماء الدول، وفي الوقت نفسه ليس على الطاولة، بمعنى أن يتأخر مقعده متراً إلى الوراء. وما إن نطق رئيس القمة الرئيس جمال عبدالناصر بكلمة افتتاح المؤتمر، حتى بادر الشقيري إلى دفع مقعده متراً إلى الأمام، واتكأ على الطاولة، شأنه شأن الملوك والرؤساء والأمراء العرب.

كان لتلك “الحركة” دلالتها الرمزية التي طوت فصولاً. فعلى الرغم من الصيغة الفضفاضة للقرار المتعلق بإنشاء مؤسسة تمثيلية فلسطينية، إذ نص على “إبراز الكيان الفلسطيني”، إلا أن الشقيري تصرف على الدوام، وبخاصة بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، باعتباره رئيساً لكيان أو نظام سياسي قائم وراسخ، وحدثت عدة وقائع كانت بمثابة مبادرات منه، لم يستأذن بشأنها أحدا، ومن أمثلتها أن يتلقى شحنة سلاح من الصين الشعبية، تصل إلى ميناء الإسكندرية، ربما كانت تلقى استحسان عبدالناصر، لكنها تحرجه مع الاتحاد السوفياتي الذي كان في أوج خلافه مع الصين.
غير أن الوجهة العربية العامة نفسها أعطت للشقيري دعماً لكي ينفذ المهمة التي أوكلها له المؤتمر، وهي القيام بجولة في الأقطار التي توجد فيها جاليات فلسطينية لانتقاء شخصيات لها أدوارها التاريخية والراهنة لتتقلد مناصب أعضاء في “المجلس الوطني الفلسطيني” الذي تم تشكيله في دورته التأسيسية في القدس، في الفترة من 28 مايو إلى 2 يونيو 1964 وافتتحه الملك حسين. كان المخطط أن يحضر الشقيري مؤتمر سبتمبر بعدئذٍ، في الإسكندرية، ويقدم تقريره، وهو ذو صفة رسمية، وإن كان ينقصها بعض العناصر، وأهمها العضوية في جامعة الدول العربية، والاعتراف بتمثيلها مجموع الشعب الفلسطيني.

بخلاف ذلك، كانت تركيبة المجلس الفلسطيني نفسها تنم عن وجود ممثلين آخرين للشعب الفلسطيني، لأن المملكة الأردنية الهاشمية أخذت حصة معتبرة من مجموع أعضاء المجلس، وكان للحصة عنوان، كما أشير لها في الأدبيات الأولى لمنظمة التحرير باعتبارها كتلة “النواب والأعيان” الأردنيين، وهم من الفلسطينيين.

كذلك كانت هناك عناصر محسوبة على العديد من الدول العربية من الخليج إلى الجزائر. وتبنى المجلس الوطني الفلسطيني في القدس “الميثاق الوطني” الذي ألمح دون التصريح، بتمثيل المنظمة لجميع الفلسطينيين من خلال النص الذي يؤكد على أن كل فلسطيني أينما كان هو عضو طبيعي في منظمة التحرير. وذلك نص لم يزعج الأردن، على اعتبار أن للمملكة أعضاء في المؤسسة التشريعية للمنظمة.

انعقدت قمة الإسكندرية في موعدها، وحضرها الشقيري كممثل لمنظمة التحرير وليس لمجموع الشعب الفلسطيني، وكان قد أعلن عن مشروع تجنيد الشبان الفلسطينيين لإقامة جيش التحرير الفلسطيني، وقد سُمح بذلك وفق شروط في غزة وسوريا والعراق. ففي غزة، حيث عقدت الدورة الثالثة للمجلس الوطني الفلسطيني (1966/5/20) بعد دورة القاهرة الثانية في العام الذي سبقه، ستكون كتائب لواء “عين جالوت” الفلسطينية جاهزة للاستعراض، وأكثر كثافة وقدرة على التعبير عن نفسها من لواءي “حطين” في سوريا و”القادسية” في العراق، بحكم أن غزة قد نشأت فيها كتائب فلسطينية تحت الحكم المصري، منذ عدوان إسرائيل في 28 فبراير 1954 على غزة، وهو العدوان الذي اضطر عبدالناصر بسببه إلى كسر احتكار السلاح الغربي والتوجه شرقاً.

فقدان الزخم
كانت المنظمة آنذاك مُحتضنة عربياً، وكان جيشيها، بألويته الثلاثة، يحمل رمزيات فلسطينية، لكن حركته وبرامج تدريبه وأسلحته وخططه العسكرية كانت كلها مرتبطة برئاسات الأركان المصرية والسورية والعراقية. ظل هذا الوضع سارياً إلى ما بعد حرب 1967 ونتائجها التي ساعدت على الفكاك، بقيادة ياسر عرفات الذي كرّس الاستقلالية الفلسطينية منذ دورة المجلس الوطني الفلسطيني المنعقدة من 1 إلى 4 فبراير 1969 التي انتخب فيها رئيساً للجنة التنفيذية للمنظمة.

إن وضعنا التاريخ جانباً ودخلنا في السياسة، نقول إن هذا الواقع، على ما كان فيه من عناصر ضامنة لوجود المنظمة، ومن بينها المكاتب التمثيلية في الدول العربية؛ لم يعد قائماً. بل إن قبول عضوية فلسطين في جامعة الدول العربية لم يأت إلا مع بدء التحرك العربي للتوصل إلى تسوية مع إسرائيل، وكان ذلك بعد حرب أكتوبر 1973 وتحديداً في التاسع من سبتمبر 1976 بعد الدورة الثانية عشر للمجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة، التي تمخضت عن إعلان ما يسمى “ورقة برنامج النقاط العشر”. فقد عبرت المنظمة في تلك الورقة، ضمنا،ً عن استعدادها للانخراط في عملية تسوية، وإقامة سلطة فلسطينية على أي جزء ينحسر عنه الاحتلال. وكانت “الجبهة الديمقراطية” اليسارية، هي التي تولت صياغة الورقة، ووافق عليها المجلس بدعم من فتح. ولولا تلك المحطة، لما “تأهلت” المنظمة لعضوية جامعة الدول العربية.

اليوم، لم تعد هناك بيئة إقليمية حاضنة لمنظمة تتراجع عن مشروع التسوية، حتى وإن لم تكن سبب فشل هكذا مشروع. وليس هناك بالطبع، جيش عربي، يمكن أن يستوعب جيشاً فلسطينيا برمزيات التحرير، ويكون طليقاً أو مقيداً.

المنظمة نفسها حملت قواتها، وجعلتها قوى أمنية في أراضي الحكم الذاتي المحدود. ثم إن الدول العربية لم تعد مثقلة بهزيمة 1967، فضلاً عن ذلك، فإن الطيف السياسي الفلسطيني، بات عاجزا تماماً عن التوافق على رؤية واحدة، أو عن الإجابة عن السؤال: على ماذا يتوافقون ومن الذين يقودون؟ ولا نبالغ إن قلنا، إن الطبقة السياسية الفلسطينية الراهنة لم تعد تصلح لشيء.

لقد بات الخيار الوحيد المتاح أولاً، هو حل أبسط المعضلات الذاتية، وهي الانقسام، ثم التمكين للإرادة الشعبية الفلسطينية للبدء في التصدي للمعضلات الموضوعية، وهذا كله يعرفه الزميل ماجد كيالي.

لقد حفيت ألسنتنا وأقلامنا، ونحن ندعو إلى وفاق فلسطيني يتكئ على غزة، ومنها ينطلق إلى إعادة بناء منظمة التحرير، وفق الصيغ المتاحة التي تتجاوز الكليات والخطاب العاطفي، وتركز على المضامين السياسية والاجتماعية، التي تُعيد تأطير السلطة الفلسطينية في منظومة كيان جامع.

العرب

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com