معضلة سياسية في أيرلندا وكورونا حاضر
معضلة سياسية في أيرلندا وكورونا حاضرمعضلة سياسية في أيرلندا وكورونا حاضر

معضلة سياسية في أيرلندا وكورونا حاضر

عدلي صادق

ربما يكون التبسيط هو أفضل ما يبدأ به من يشخّص حال الانسداد السياسي الذي لا تزال تشهده جمهورية أيرلندا منذ الانتخابات الأخيرة التي جرت في الثامن من فبراير الماضي. والبساطة تؤخذ من خلال قراءة سريعة لوقائع اللحظة، وهي أن الحزبين اللذين تصدرا الحياة السياسية على مر عقود، باتا عاجزين عن تشكيل الحكومة، حتى بما عُرف عنهما من تناغم في الأوقات التي تتطلب تناغما، ومن سجال مرير أو تراشق، عندما لا يكون أحدهما في حاجة إلى الآخر. فالحزبان، فيانا فيل وفاين غايل، اضطرا بعد تقدم حزب “شين فين” اليساري (جذر الحزب الأول تاريخيا)، إلى إبرام اتفاق “ثقة ودعم” لكي يحبطا معا، تشكيل حزب “شين فين” الحكومة. وجاءت جائحة كورونا، فوضعت مصاعب جديدة أمام مفاوضات الحزبين مع مجموعات صغيرة وأعضاء مستقلين نجحوا في الانتخابات، بحكم أن الأحزاب والمجموعات الصغيرة (وبخاصة “حزب الخُضر”) رفعت من وتيرة مطالبها واشتراطاتها، مقابل أن تأتلف مع الحكومة. فمجموع ما حصل عليه حزبا فيانا فيل وفاين غايل، هو 72 مقعدا من 160 بينما المطلوب في الحد الأدنى 81 مقعدا لتشكيل الحكومة. أما “شين فين” فقد حصل على المركز الأول مكرر بـ37 مقعدا، وهو عدد مساو لما حصل عليه حزب فيانا فيل. ومن خلال هذه النتائج وردود أفعالها، أدرك “شين فين” أنه قد ضيّع فرصة ثمينة للفوز بأغلبية مريحة، إذ كان بمقدوره أن يضاعف عدد المرشحين في المقاطعات، ولا يكتفي بالعدد الذي دفعه إلى المنافسة. فلم يكن يتوقع أن أسهم فيانا فيل وفاين غايل قد تراجعت شعبيا، علما بأن هذا الحزب اليساري يدرك أن من بين طبائع الشعب الأيرلندي، أنه يعاقب الحكومة على إخفاقاتها في القضايا الاجتماعية، مثلما فعل في انتخابات 2011 عندما أطاح بحزب فيانا فيل وألحق به هزيمة مريرة بعد أزمة 2008 الاقتصادية، إذ أنزله الشعب، من وضع الحزب المنتصر، الحاصل وحده على عدد من المقاعد، يُمكّنه من تشكيل حكومة (81 مقعدا) إلى حزب مُني بأكبر خسارة في تاريخه، بحصوله على عشرين مقعدا فقط. ولم يكن الحزب الأقرب إليه، وهو فايل غايل، سيصعد إلى سدة الحكم، إلا بشفاعة معالجة الأزمة، وتفوقه في منهجيات الاقتصاد الرأسمالي. لكن هذه المرة، أي في الانتخابات الأخيرة، فوجئ حزب فاين غايل، بأن أسهمه قد هبطت بسبب فشله في معالجة قضايا الصحة والسكن.

اليوم تمر أيرلندا بأكثر الأوقات التباسا وقلقا في تاريخها المعاصر، وقد أصبحت أمام مفترق طرق. فما إن ظهرت علامات النشوة على حزب “شين فين” حتى التقى الحزبان المتصدران عبر التاريخ، وبدأت حملة التشكيك في الطابع السياسي ـ الاجتماعي لحزب “شين فين” بزعم أن واجهته القيادية ليست مستقلة، وإنما هي تتحرك بإمرة “المجلس العسكري للجيش الأيرلندي الجمهوري” السري والقديم. في الوقت نفسه، لا يختلف اثنان أيرلنديان على حاجة النظام السياسي الأيرلندي إلى عملية إصلاح شاملة. لذا وفي هذا الخضم، تغاضى حزبا فاين غايل وفيانا فيل عن المسائل الخلافية والتنافس السياسي القديم ـ الجديد. واتفق الطرفان على خطة إطار سياسي، من شأنها أن تشكل أساسا للشراكة في تشكيل حكومة يُستبعد منها “شين فين”.

هذان الحزبان كانا دائما يلعبان وحدهما في الساحة السياسية الأيرلندية. فيانا فيل، في المنهجية الاقتصادية ـ الاجتماعية، شبيه الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، وفاين غايل شبيه الحزب الديمقراطي. والحزبان محسوبان في موضع يمين الوسط، الممزوج برائحة التاريخ الأيرلندي والذاكرة الوطنية. وكانا على الدوام، أمام الخارج الأوروبي، توأمين متنافسين، كلاهما حسم موقفه ضد الحرب الأهلية في أيرلندا، واختار نهج الاعتدال لتحقيق التسوية مع الإنجليز. وكلما احتقن الوضع السياسي في البلاد، كانا يتقاربان، ويمرران معا ما يرياه “الشيء الصحيح” إن كان على مستوى التدابير المالية أو القضايا الاجتماعية. وعلى امتداد أكثر من تسعة عقود، كان أحدهما أو الآخر في سدة الحكم، وظلت المنافسات الانتخابية محصورة بينهما. من هنا جاء القلق من صعود “شين فين” في جمهورية أيرلندا، كما في أيرلندا الشمالية التابعة لبريطانيا!

في أواخر الثمانينات، مرت أيرلندا بضائقة مالية شديدة الصعوبة. وكان فيانا فيل في الحكم ويتحمل مسؤولية الأزمة. لكن منافسه حزب فاين غايل، لم يستغل محنة خصمه، بل بادر إلى دعمه لإجراء الإصلاحات الاقتصادية. وعلى الرغم من فوز فاين غايل في الانتخابات العامة الأخيرة، دون أن يحصل على مقاعد كافية لتشكيل الحكومة، جرى التوافق على حكومة يشكلها فاين غايل، ويمررها البرلمان، من خلال امتناع نواب فيانا فيل عن التصويت، مع حصول الأخير على بعض التنازلات السياسية. وبسبب ذلك التدبير، شعر قطاع عريض من الأيرلنديين، أن الحزبين المتنافسين تاريخيا، كانا معا في الحكومة، وهذا من العوامل التي استفاد منها “شين فين” في المنافسة الانتخابية الأخيرة.

في المحصلة، تكمن المعضلة اليوم، في أن المشهد السياسي الأيرلندي ليس فيه طرف مفوض شعبيا لتسلم الحكم. وهذه بحد ذاتها مشكلة كبرى، ومن المرجح أن تتفاقم إن أخفق الحزبان في جهودهما الراهنة، لتشكيل الحكومة حتى مطلع يوليو المقبل، حين تبدأ عطلة البرلمان. عندئذ سيكون البرلمان مضطرا إلى أن يغلق أعماله بقرار إجراء انتخابات عامة أخرى. وستكون لمثل هذا القرار كوابيسه وتفاؤلاته، على رقعة الشطرنج الحزبية. فمن جهة يُخشى أن يعاود “شين فين” المنافسة، بعدد مضاعف من المرشحين، ومن جهة أخرى، سيرى الحزبان المتصدران تاريخيا، أن طبيعة المهام الاقتصادية لا يستطيع حمل عبئها الحزب الثالث المنافس. ثم إن هناك بعض الأوراق الرابحة لا تزال في جعبة الحزبين مجتمعين، من بينها أن معدل البطالة، الذي تسببت فيه الأزمة الاقتصادية في العام 2008 هبط من 15 في المئة إلى 4.5 في المئة خلال النصف الأول من العقد المنقضي. وبالنظر إلى أن المعدل قد ارتفع الآن، بسبب كورونا، فإن هذا الارتفاع معطوف على الظاهرة الكونية، وليس على أسباب من صنع الساسة. ذلك على الرغم من تقديرات البنك المركزي الأيرلندي، المتشائمة، للنتائج المالية الكارثية الناجمة عن الجائحة. فالبنك يقول إن الدولة تنفق 3 يوروهات مقابل كل اثنين يدخلان إلى الخزينة كواردات، وهذا أمر يحتاج إلى وقت لمعالجته، لكنه يتطلب حكومة قوية. ربما هذا الذي جعل بعض الأصوات، من داخل الحزبين، تطالب باستيعاب “شين فين” لتشكيل حكومة وحدة تتطلبها المرحلة!

العرب

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com