حسابات وخلفيات المأزق الجزائري
حسابات وخلفيات المأزق الجزائريحسابات وخلفيات المأزق الجزائري

حسابات وخلفيات المأزق الجزائري

عدلي صادق

كان الحراكان الجزائري والسوداني، متشابهين في تحديد هدف إطاحة النظام، وفي الثبات على التحشيد لتحقيق الإطاحة، ومتعادلين في استطاعة كل منهما أن يسجل تقدم الشارع على النخب السياسية الحزبية، التي تلعثمت وتوجست من النتائج، على الرغم من تأييد المعارضة في كل من السودان والجزائر للحراك.

لكن الحراكيْن، اختلف أحدهما عن الآخر، في رؤيته للطريقة الأمثل لتفكيك النظام القديم والذهاب إلى نظام جديد وديمقراطي يأمن به الشعب على مستقبل حياته السياسية. فالسودانيون يريدون مرحلة انتقالية مريحة، تتخللها سلطات مهتمة ولها مصلحة في تفكيك نظام عمر البشير، وهذه السلطات لا يمكن أن تتأسس بغير التوافق مع الجيش.

أما الجزائريون فإنهم يطمحون إلى ضغط الوقت والذهاب إلى مرحلة انتقالية قصيرة يقف على رأسها رجل توافقي، قبل انتخاب الرئيس الجديد، على ألا تزيد هذه المرحلة عن الفترة التي يمنحها الدستور لرئيس البرلمان، ويُصار خلالها إلى تكليف شخصيات موثوقة، ثم الذهاب إلى الانتخابات الرئاسية، لكي ينطلق بعدها الجزائريون إلى تأسيس نظام ديمقراطي يستكمل مؤسساته الدستورية، عبر مسارات انتخابية ولائية ونيابية، في غياب أي دور إشرافي لرموز النظام القديم. فالشارع الجزائري لن يقتنع بأن الانتخابات النزيهة يمكن أن تجري تحت إشراف نظام خبر الجزائريون طبيعة سلوكه في العمليات الانتخابية، وقد انتفضوا وخرجوا لإسقاطه، لكي لا يعودوا إلى الدوامة التي ظلوا فيها لعشرات السنين، ولم تنتج سوى كل أنواع الفشل في التحديات الأساسية، وبخاصة التنمية والتحدي الديمقراطي وإحراز الدولة المدنية العصرية، الضامنة للحقوق والحريات، والفشل في الحفاظ على الدور الريادي للجزائر على الأقل عربيا وأفريقيا.

على الجانب الآخر المتعلق بعصب النظام الجزائري الذي أطيح برأسه؛ مضت الأمور كما لو أن شغور منصب رئيس الجمهورية حدث لأسباب الوفاة، إذ جرى تفعيل المواد الدستورية، بدءا من تولي رئيس البرلمان الحكم لفترة انتقالية، على أن تُجرى انتخابات رئاسية في الرابع من يوليو المقبل. وحيال إصرار الحراك ومعه المعارضة التي آزرته، على غياب رموز نظام عبدالعزيز بوتفليقة؛ بادر الرئيس الانتقالي عبدالقادر بن صالح إلى طرح صيغة للخروج من المأزق، متحسسا الشكوك العميقة لدى الشارع في صدقية رجال نظام بوتفليقة، فدعا إلى حوار “ذكي وبنّاء” حسب وصفه، للتوافق حول الشروط الكفيلة بضمان نزاهة الانتخابات الرئاسية. وبسبب هذا التعارض بين رؤية الحراك ورؤية السلطة القائمة، نشأ المأزق واستمرت احتشادات جُمَع الاحتجاج، وظل كل طرف على موقفه.

من خلال نظرة فاحصة على موقفي الطرفين، يتبين أن كلا منهما له أسبابه التي يمكن وصفها بالمبررة إن لم تكن وجيهة. فعبدالقادر بن صالح، ورئيس وزرائه نورالدين بدوي، مضطرّان إلى اتباع الخطوات الدستورية، ولم يكن مُنتظرا منهما أو ممن سيكون في موقعيهما، التسليم بأن الدولة والصف الأول من رجال السلطات العامة، قد أصبحا في خبر كان، وأن الشارع لديه الآلية والمسوّغ الدستوري لجلب البديل بين ليلة وضحاها. ولعل نقطة الضعف في موقف هذا الطرف، هي التي تعطي للحراك الشعبي سببه الوجيه للمطالبة بغياب رموز نظام بوتفليقة قبل الذهاب إلى صناديق الاقتراع. فلدى الشارع تجربة طويلة مع الانتخابات الصورية. والجزائريون يدركون أن مراكز القوى في الدولة العميقة، تظل لسنوات أشد بأسا في مفاعيلها من وراء حُجب، من الكتلة الشعبية التي أسقطت واجهتها السياسية.

ففي الجزائر، كما في السودان، هناك شبكات مصالح ومراكز قوى ومتموّلون وعناصر موصولة بالخارج، يمكن أن تفعل فعلها لإحباط أيّ عملية انتخابية تتاحُ لها المشاركة في الإشراف عليها اقتراعا أو عدّا للأصوات أو إعلانا للنتائج أو تأثيرا في الناخبين. والمسألة في السودان أعقد لأن البشير الذي أطيح به، ومعه حزبه، تعمّدا توظيف الدين واللعب بالمقدس لممارسة أسوأ أنواع الفُحش، وها نحن نرى الآن في السودان، القوى نفسها التي مكنت للبشير عشرات السنين، لا تخجل من نفسها، وإنما تسارع إلى إعادة إنتاج دورها وخطابها، ولو بتأثيم صديقها القديم، حتى تعود ثانية لكي تلعب بالمقدس وتوظف الدين، لمنع قيام دولة المواطنة المدنية، وذات الدستور العصري النافذ. وهذا هو الفارق بين الوضع في السودان والوضع في الجزائر، التي تقتصر فيها الأمور على شبكات مصالح ومتموّلين وشرائح هامشية بمعيار الحجم لكنها مؤثرة بمعيار الفاعلية.

قلنا إن السلطة الجزائرية الانتقالية، لم تجد مفرا من الاستمرار في خطواتها، وفي هذا السياق، أعلنت وزارة الداخلية، الأربعاء الماضي، عن استلام 68 طلبا قدمها الراغبون في الترشح للرئاسيات المقبلة، للحصول على استمارات اكتتاب التوقيعات الفردية، وقالت “الداخلية” إن المهلة الدستورية لإيداع ملفات الترشح لدى المجلس الدستوري، تنتهي في 20 مايو الجاري.

لكن المأزق يتبدى من خلال رفض معظم الحراك الشعبي وكل المعارضة السياسية للانتخابات نفسها ولدعوة الحوار التي أطلقها بن صالح. معنى ذلك أن السلطة المؤقتة تصر على الخطوات الدستورية، والشارع والمعارضة يصران على الرفض التام، ويعتبران بن صالح وبدوي، من بقايا نظام بوتفليقة، و”لا ثقة فيهما لتنظيم انتخابات نزيهة”. ومثلما حدث في السودان، انضوت قوى حزبية واجتماعية معارضة في إطار أطلقت عليه اسم “تحالف قوى التغيير من أجل نصرة خيار الشعب” وقد أكد هذا التحالف على رفضه المطلق للحوار مع بن صالح وبدوي “بسبب افتقادهما للشرعية الشعبية” حسب وصفه. وعلى الرغم من الدعوة التي وجهها الجيش، بلغة محايدة، إلى كل الأطراف، للعمل على الخروج من المأزق؛ إلا أن “تحالف قوى التغيير” يرى أن الانسداد الحاصل، سببه تعنت المؤسسة العسكرية التي أصرت على تنظيم الانتخابات بموجب المادة 102 من الدستور، التي تكرس بقاء نظام بوتفليقة.

ويمكن القول إن هذا الاتهام، لا يقوم على منطق، لأن الدستور يخلو من المواد التي تجعل الانتخابات تجري مثلما يريد التحالف. فهذا هو الدستور الجزائري الموجود، ولا حديث حتى الآن عن تغيير دستور، وإنما عن عملية انتخابية ديمقراطية نزيهة يتاح في إطارها بناء المؤسسات الدستورية وصياغة دستور جديد. وللأسف تبرر جماعة “التحالف” موقفها بأن ما يجري في الجزائر هو ثورة لها منطقها، وفي هذه الحال يصح اقتلاع بقايا النظام، وذلك علما بأن كل تجارب الاقتلاع الشامل التي شهدها التاريخ شهدت اختلاط الحابل بالنابل، وخلفت مرارات لسنين طويلة.

أمام هذا المأزق، يبدو أن الحل يكمن في تنصيب شخصية توافقية على رأس الدولة لفترة انتقالية، تختار معاونين، وكذلك طاقما تنفيذيا يضمن أن تُجرى كل مراحل الانتخابات بنزاهة، وسيكون ذلك حلا في الإطار الدستوري.

العرب

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com