الإفطار في رمضان وقلاع المسلمين من حولنا
الإفطار في رمضان وقلاع المسلمين من حولناالإفطار في رمضان وقلاع المسلمين من حولنا

الإفطار في رمضان وقلاع المسلمين من حولنا

أثار تعميم لرئيس بلدية مدينة طرابلس اللبنانية استياء عارماً إذ دعا فيه الى «احترام خصوصية الصائمين» وعدم إشهار الإفطار خلال شهر رمضان، في إعلان صريح لهوية تسعى المدينة منذ سنوات لتثبيتها.

وضجت وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بتقارير ورسائل مفتوحة تعبر عن غضب فئة غير قليلة من اللبنانيين، والطرابلسيين تحديداً، الرافضين لقرار جاء بصيغة «التمني»، ويفرض لوناً وسلوكاً موحدين على مدينة يفترض أنها عاصمة الشمال كله، بما يضم من طوائف وملل.

وتزامنت هذه الخطوة غير الموفقة لرئيس بلدية أكبر مدينة سنية، مع تهديد تنظيمات متطرفة مثل «داعش» و «النصرة» للبلد، ووسط بروز أسماء انتحاريين محليين، بما يعمق الشرخ الواقع أصلاً، ويضع الطائفة السنية في مواجهة مباشرة مع كل ما عداها.

ووسط تصلب المواقف وتطرفها، طالب بعض أبناء طرابلس بسحب التعميم، وذهب بعضهم خطوة أبعد منادين بتحرك مقابل «للمجاهرة بالافطار»، وهو ما دفع بأصحاب الرأي الأول ايضاً الى كسر حاجز لم يكسر في المدينة منذ سنوات حكم التوحيد مطلع الثمانينات، فألقوا قنبلة على مقهى فتح ابوابه خلال نهار رمضاني.

وبين خصوصية الصائمين وحرية المفطرين، تلقف البيان سياسيون صاعدون، راغبون في ترميم علاقتهم المتصدعة بالمدينة ونخبها الاقتصادية والثقافية، وأعلنوا رفضهم له من دون أن يستعملوا صلاحياتهم الفعلية في وقف تنفيذه. فمعلوم إن البلديات خاضعة لوزارة الداخلية وليس لدار الفتوى التي صادقت على التعميم، والوزراة يفترض أنها الجهة المؤتمنة على تطبيق الدستور اللبناني الذي لا يمنح صلاحيات لفئة على حساب أخرى في شهر معين من السنة.

والحال أن سلوكاً من هذا النوع يكشف، من ضمن ما يكشف، قدرة فئة على بسط نفوذها على الفضاء العام وسلوك العابرين فيه، مستعينة بسلطة الدين التي استنسبتها لنفسها من دون أي تفويض من عموم المواطنين. وليس ذلك بتفصيل عابر، فأن يعترض صوت في طرابلس بالقول إنه سيطالب بسحب أسياخ الشاورما والدجاج من واجهات المطاعم خلال صيام المسيحيين من باب «احترام خصوصية الصائمين» أيضاً، هو اقرب الى الدعابة التي يعرف مسبقاً إنها لا تملك سلطة التطبيق. وليس الامر هنا مجرد تنافس عددي بين أكثرية وأقلية، ذاك أن اصوات المعارضين للتعميم البلدي هي بغالبيتها مسلمة وبعضها يلتزم الصلاة والصوم. لكن جوهر المسألة يكمن في استقواء فئة على أخرى باسم المعتقد الديني الذي تصعب إن لم تستحل مجابهته بقوانين وضعية، سيما وانه يحصن تلك الفئة بأن يمنع عن غيرها من اصحاب المعتقدات الأخرى الحق نفسه.

لكن اللافت يبقى ان ما اقدم عليه رئيس البلدية الطرابلسي ذاك، ليس أكثر من تثبيت وضع قائم، حبراً على ورق. فمن يعرف طرابلس، يعلم يقيناً إنها باتت طاردة لمن لا يوافقها السلوك الاجتماعي والانتماء الديني طوال أشهر السنة وليس حصراً في شهر الصيام.

فعدم إشهار الإفطار رائج في المدينة منذ أكثر من عقد من الزمن، بفضل سلطة اجتماعية باردة وتوافق داخلي غير معلن. فالمحال التجارية تسحب «تلقائياً» من واجهاتها كل ما قد يفتح شهية الصائمين ويزعزع ايمانهم، ومتاجر الحلويات التي تشتهر بها المدينة وترتفع عائداتها بشكل خيالي في رمضان، تدفع الزبائن الى زوايا بعيدة وتحجبهم خلف الستائر عن أعين المتسوقين والعابرين. هذا ويفكر زائرو المدينة من ابناء المناطق المجاورة، ملياً في لباسهم ويختارون منه ما يتوافق والذائقة العامة تفادياً لـ "خدشها".

ذلك كله وغيره من التغييرات الاجتماعية والسلوكية الصغيرة استتب في طرابلس بهدوء وبغير كثير جلبة كما فعل التعميم الأخير. ومن غير قرار رسمي، تكرست عاصمة الشمال «قلعة للمسلمين» دون غيرهم وسط ازدواجية وفصام يتنازعان ابناءها. فالطبقات الوسطى والعليا تعيش حياة كاملة في مسابح وملاهٍ لا تبعد عن ذلك الحصن المنيع أكثر من نصف ساعة، فيما قاع المدينة يغرق في المخدرات الرخيصة وحبوب الهلوسة وضرب الموسى.

وبين رأس الهرم وقاعدته، تنتصب «قلعة المسلمين» متنازلة عن دورها كحاضنة مدينية وملونة لخزان بشري متنوع بحيث يتسنى لحراسها فرض سلطاتهم وممارسة ريائهم من دون أن يخدش شعورهم ما يلم بالمدينة من فقر وتهميش وتطرف وانحراف. هكذا، استكانت طرابلس لمصابها كما تستكين المدن التقليدية عادة فتتحايل على أزماتها، وتنشئ وتدفع بها تحت البساط حتى إذا جاء من يرفعه قليلاً تتلقى الحدث كصفعة مدوية وغير متوقعة.

فكما نشأت في طرابلس أمزجة فرضت التدين بكافة أشكاله وشروطه على السلوك العام، بحيث بات متاحاً لرئيس بلدية اقراره رسمياً من دون أدنى شعور بفداحة ما يرتكب، ذعرت في المقابل فئة من أبناء المدينة بما جرى كأن السنوات الماضية لم تمهد له أمام نظرها وسمعها.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com