خطر خطاب جماعات الإسلام السياسي

خطر خطاب جماعات الإسلام السياسي

مع ظهور جماعة الإخوان المسلمين عام 1928م، برز خطاب إسلامي جديد يحتكر تعريف كل ما هو إسلامي، ويؤسس معالم الهوية والثقافة لجماعة الإخوان وما فخخته على أنه هو الإسلام الحق وما يخالفه فهو عدو له..

كان ذلك الخطاب يعبر عن أهداف الجماعة ويجسد الهوية الانشقاقية لجماعة الإخوان عن الإسلام ذاته، حيث تنتهي الأيديولوجيا التي يتبناها ويحتكرها لمواقف وتصنيفات وعلاقات، شكّلت انقساما عميقا في مجتمعات المسلمين، وأسست مرجعيات أيديولوجية جديدة تستقطب الأفراد وتنازع الحكام وتتقمص ثوب الإسلام في العلن وتروج خطابها وتصده لعموم المسلمين..

وقد فرخت من عباءتها جماعات وأحزابا متعددة تدور في فلكها، إلا أنها تصدت المشهد بما قامت به من أعمال إرهابية كجماعة الهجرة والتكفير وتنظيم القاعدة وداعش وبوكو حرام وغيرها من الجماعات المسلحة.

لقد تحوّل ذلك الخطاب الديني عبر عقود إلى منبر إعلامي مدروس ومؤثر بعد توغله وتطوره في المجتمعات، لقد أصبح خطاباً أيديولوجيا سياسيا متمكنا، وكان له أنصار وأتباع يلاحقون تحقيق الهدف المراد له وهو وهْم استعادة الخلافة أو الدولة الإسلامية الذي سوّق له حسن البنا وأتباعه من بعده بشعارات براقة مختلفة منها "الإسلام دين ودولة"، "الإسلام هو الحل"، "توحيد الحاكمية"، ووظفوا لدعم ذلك التوجه كل الوسائل ولو كانت مختلقة.

لقد أسسوا ذلك الخطاب على اعتبار أن الدول القائمة مناقضة لمشروعهم فهي سلطات إكراه، يفرضها الحكام ولا شرعية لها، ويرون الحدود الجغرافية القائمة لها ساقطة مع الأممية التي ينشدونها، فتلك الدول ليست إلا لبنات تتسلق ويستعان بها على إقامة مشروعهم عندما تحين ساعة الصفر.

وهذا يدلنا بأنّ خطاب جماعة الإخوان والإسلام السياسي تعرّف الإسلام بأنه الدولة، وهذا فهم ابتدعه حسن البنا ورسّخ مفهومه المؤدلج في الوعي العام للجماعة، وهذا الفهم خلق اقترانا شرطيا في نفوس أتباعه؛ بين مَن يعارض الدولة التي ينشدونها -ولو كان مسلما- والكافر الذي لا يؤمن بشرع الله، من خلال إسقاط أيديولوجي متوهمة تطابق فهم الجماعة للإسلام..

فكان لزاما أن ينتهي خطاب الهوية ذلك في العلاقة مع الآخر المختلف إلى التكفير والإقصاء واستباحة الدماء، لقد ألجأ خطاب الهوية جماعات الإسلام السياسي بالضرورة إلى احتكار مفاهيم الإسلام، وتحريفها وابتداع مرجعيات جديدة تتماهى مع منطق الجماعة الأيديولوجي لدعوتهم..

كانت أفكار الجماعة ومفاهيمها المتحولة سببا جوهريا لانقسام المجتمعات وتحولها، من خلال تحريف المفاهيم الشرعية الأصيلة للإسلام، والتي عرفها المسلمون طوال تاريخهم، فتحولت كثير من المعان المعرفية عن معناها مثل: "الجهاد"، و"الجماعة"، و"الشريعة"، و"التكفير"، و"الدعوة"، و"الهجرة"، و"الخلافة"، و"التمكين".. وغيرها، كل ذلك لتأسيس مفاهيم محرفة ومفخّخة بالعنف لكي يوصلهم إلى تأسيس الخلافة أو الدولة المتوهمة.

إن خطاب الهوية، الذي رسخ اعتقاد الجماعة بأن الدولة والدين متلازمان كالشيء الواحد، وكرس جهود الجماعة الحثيث لتحقيقه ليلا ونهارا، أصبح عقدة في خطاب جماعة الإخوان المسلمين؛ وأي محاولة لتفكيك ذلك الوهْم في رؤية الجماعة يعد هدما لمبرر وجودها، وإسقاطا لأهمية مرجعياتها الأيديولوجية ودورها المدمر في تفكيك نسيج المجتمعات وزلزلة استقرارها، ولهذا لا تمارس جماعة الإخوان المسلمين الفكر النقدي لمنهجها ولا تسمح به.

لقد تولد عن خطاب الهوية لدى جماعة الإخوان المسلمين، وجماعات الإسلام السياسي اغترابا عن المعاني الوطنية في كل البلدان، عبر مظاهر وحيل مختلفة تمسكا بأفكار الهوية الأممية المتعالية على الوطن والمواطنة، ظنا منهم أن هناك إمكانية واقعية لتحقيق تلك الأفكار الأيديولوجية المتعذرة، وقد أدى هذا لمواجهة الوطن والمواطنة بطرق شتى ومع ذلك  فشلوا فشلا ذريعا في تجارب الحكم التي تقلدوها.

لقد مارست الأيديولوجيا في خطاب الهوية لدى الإخوان قمعا متواصلا لحرية الفكر والمعرفة، وصوّرت الواقع الذي لا يتوافق معها في الأوطان أنه ميدان للصراع، واعتبرته صراعا أبديا وجوديا، فليس لديهم إلا خيار الانتصار لمشروعهم كيفما كان.

وللأسف إنه بعد أن بان عوار ذلك الخطاب، وظهرت آثار دماره في بلدان العالم العربي، وبدت عيوبه مازال هناك مَن يدعى أن هذا الخطاب مظلوم، وأن حلول مشكلات المنطقة العربية فيه، ويقولون الإسلام هو الحل.

مع أن الإسلام بتعاليمه المحكمة لم يكن يوما حلا لمشكلة التخلف المعرفي الحضاري الدنيوي، كما أنه لم يكن سببا للتخلف المعرفي الحضاري الدنيوي كما يزعم فريق متطرف آخر.

إن مجتمعاتنا العربية والإسلامية المعاصرة اليوم بحاجة ماسة للأخذ بأسباب التمكن المعرفي في كل نواحي الحياة الإنسانية الدنيوية، الاقتصادية والإدارية والصناعية والزراعية والسياسية وغيرها، والأخذ بأسس التقدم في العمل والبناء وعمارة الأرض وتطور الإنسان والمكان في إطار مقاصد الإسلام وأحكامه المتفق عليها، ومواكبة المتغيرات الحديثة وتجنب التناقضات والأفكار المتوهمة، وتجنب خطاب الهوية الإسلاموي الذي صوّر الإسلام ومبادئه الإنسانية العظيمة للعالم الحديث وكأنه دين دموي لا يقدم للبشرية إلا الانتحاريين والإرهابيين والصدامية والتفجير..

كل ذلك في الحقيقة هو التخلف المدمر الذي أنتجته خطابات الهوية لجماعات الإسلام السياسي والتطرف التي ضللت المحبين لدينهم، فانخدعوا وتعاطفوا مع مَن يرفع الشعارات الدينية البراقة الكاذبة من ذوي الأفكار المنحرفة والمضللة.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com