خيرة الشيباني
خيرة الشيباني

 لن يصفح.. ولن تُؤمر فتطيع

يقول إنه لا يخشى الملف الجزائري، ولكنه عندما يخوض فيه يتجاوز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كل الخطوط الحمراء التي تفرضها الأعراف الدبلوماسية كما يفرضها مبدأ الاحترام المتبادل للأطراف الشريكة، وقد تجاوزها فعلاً ماكرون، في الحوار الذي أجرته معه الأسبوعية الفرنسية "لوبوان" منذ أيام قليلة..

تجاوزها وهو يتحدث عن العلاقة القديمة والممتدة، العلاقة المُثقلة بالجراح، ولكنها العلاقة التي لا يمكن أن تنفصم بين الجزائر وفرنسا ولا يمكن لها أن تنتهي؛ فتاريخ الجزائر هو جزء من التاريخ الاستعماري لفرنسا، وتاريخ فرنسا هو جزء من تاريخ مقاومة الجزائر لقوة غاشمة عملت على مدى عقود طويلة، على نهب خيراتها وإبادة شعبها وعلى سد آفاقها نحو التطور والتقدم.

ليست المرة الأولى التي يرفض فيها ماكرون أن يعتذر باسم بلاده عن تاريخ من الدمار، فقد سبق أن أصر على ذلك الرفض قبيل الانتخابات الرئاسية الفرنسية في شهر أبريل 2022.

هذا على مستوى التاريخ والماضي والذاكرة الجريحة، أما على مستوى الحاضر فثمة قرابة 8 ملايين جزائري يعيشون الآن بفرنسا، وثمة الآلاف من الفرنسيين الذين يحملهم الحنين إلى الأرض التي وُلدوا فيها أو وُلد فيها آباؤهم ونشؤوا وترعرعوا وكانت لهم ذكريات بالأرض التي تنفسوا هواءها واستمتعوا بشمسها، فيعودون إليها من الحين إلى الحين استحضارا للماضي الجميل أو يقررون الموت في حضنها، في أخريات حياتهم..

ثم هنالك علاقات دبلوماسية ومبادلات تجارية ومصالح اقتصادية وارتباطات ثقافية تريدها الجزائر نِدية، متكافئة ومتحررة من الإرث الاستعماري القديم بالاعتراف بجرائمه وبتبعات ذلك الاستعمار وبتقديم اعتذار يُخفف وطأة الماضي ويمسح بعض جراحه، ولكن ها هي فرنسا في شخص رئيسها، وقبل ذلك في شخص العديد من سياسييها ودبلوماسييها ومؤرخيها يأبون الاعتذار وطلب الصفح وتضميد الجراح التي خلفتها السكين التي أغمدتها في لحم الجزائر الحي.

يقول ماكرون للكاتب كمال داود، الذي أجرى معه الحوار، بلهجة قاطعة: "لستُ مضطرا لطلب الصفح"، داعيا إلى البدء في كتابة صفحة جديدة، لأن ما يهم فرنسا هو حاضرها، أي موقع الجزائر الاستراتيجي، وكونها فضاءَ عبور إلى دول جنوب الصحراء، ما يهمها أن تكون بلد المليون شهيد، منذ انطلاق حرب التحرير، وحوالي 6 ملايين شهيد، منذ بدء الاحتلال، سوقا لسلعها ومختلف منتجاتها وفرصا سانحة وثرية لاستثمار رجال أعمالها.

يستغرب الرئيس الفرنسي أن تكون أجيالٌ جزائرية لم تعش أهوال الاحتلال وفظاعته ووحشيته، بل أجيالٌ من بلدان أخرى لم تعرف مسارات العنف وسطوة الاستعمار، حساسة لمثل هذه المسألة، مسألة الصمت عن الاعتذار وطلب الصفح لمدة عقود طويلة.. "ما يُذهلني، بما في ذلك من الأجيال التي لم تختبر الاستعمار من قبل، ومن الذين يأتون من بلدان تم فيها إنهاء الاستعمار دون نزاع تقريبا، هو أن الحرب الجزائرية تشكل نقطة مرجعية للصدمة".

يذهل تلميذ الفيلسوف بول ريكور صاحب مفهوم "الذاكرة الصحيحة" أن تكون الجزائر، في حربها التحريرية، أيقونة لأحرار العالم يتوارث الأبناء عن الآباء لها الإعجاب والتقدير، وألا ينسى أبناء الجزائر آلاف جماجم الشهداء وهي تُردم في جنح الظلام.

ليست المرة الأولى التي يرفض فيها ماكرون أن يعتذر باسم بلاده عن تاريخ من الدمار، فقد سبق أن أصر على ذلك الرفض قبيل الانتخابات الرئاسية الفرنسية، التي أجريت في شهر أبريل من العام الماضي، كان ذلك على صفحات لوموند، وعلل العارفون بشؤون السياسة أن هذا الرفض يأتي في سياق الحملة الانتخابية التي كان يقوم بها ضد منافسته الشرسة مارين لوبان، وأنه كان يجهد من أجل أن يغرف من خزانها الانتخابي بعض الأصوات اليمينية المتطرفة، ولكن هذا التصريح لم يكن سقطته الأخلاقية الأولى، فقد قرنها بسقطة أشد شناعة وهو ينفي وجود بلد اسمه الجزائر.

نفهم أن هنالك مصالح فرنسية قد ضاقت عليها فرص الانتعاش والتمدد والاستئثار بالأسواق الجزائرية، إلى جانب حقد تاريخي لم تنجح فرنسا في أن تبرأ منه..

هذا الإنكار لهوية شعب ما ولتاريخه ولجغرافيته هو استمرار للرؤية الاستعمارية للمدرسة التاريخية التي لم يكن جون سيفيا أول ولا آخر مَن يمثلها، وهو القائل في كتابه "الحقائق الخفية لحرب الجزائر"، "إن الجزائر كانت أرضا خالية من أهلها يوم نزل جيش الاحتلال، وإن مصطلح الجزائر ابتكار فرنسي يعود إلى بدايات القرن التاسع عشر، حيث لم تكن تلك الأرض إلا مستعمرة عربية قبل أن تتحول إلى مستعمرة عثمانية!".

هذه الرؤية التاريخية الاستعمارية مهّدت لاحتلال الجزائر، أو على الأقل أضفت عليها مشروعية علمية، كما سبق أن أضفت مثيلتُها البريطانية مشروعية على احتلال أرض فلسطين، وهي تنطلق من موقف المركزية الأوروبية التي تأخذ على عاتقها مهمة إدخال البُلدان التي تود الاستيلاء عليها ونهب خيراتها "دائرة الحضارة وتنويرها".

لقد سبق للجمعية الوطنية الفرنسية أن رأت في هذا "العمل الجليل مدعاة للافتخار" عندما أصدرت عام 2005 قانونا أعربت فيه باسم الأمة الفرنسية "عن امتنانها للنساء والرجال الذين شاركوا في الأعمال التي أنجزتها فرنسا في المقاطعات السابقة، في الجزائر والمغرب وتونس والهند الصينية، وكذلك في الأراضي ما وراء البحار التي كانت تخضع سابقا للسيادة الفرنسية".

تُضمر الخطابات السياسية، كما غيرها من الخطابات، أكثر مما تُفصح عنه، وفي خطاب السيد ماكرون أكثر من ردة فعل وحقد تاريخي على طرد فرنسا من الجنة الموعودة، وإذلال أساطيلها الحربية بفرق المقاومة الجزائرية الضئيلة العدد والعُدة، بل ردة فعل قوية على اختيار الجزائر رسم طريقها في السياسة الخارجية بعيدا عن محاولات الإخضاع أو التبعية الفرنسية أو الأمريكية، فقد رفضت الجزائر طلبا أمريكيا، إثر انطلاق الحرب الروسية الأمريكية، لقطع العلاقات مع روسيا..

أخبار ذات صلة
ماكرون "لن يطلب الصفح" من الجزائر عن الاستعمار ويأمل استقبال تبون هذا العام

وبعيدا عن الاحتكار الفرنسي، تشتري الجزائر ثمانين بالمئة من أسلحتها من روسيا، ومنذ 2013، تُعتبر الصين المصدر الأول للأسواق الجزائرية، كما أنهت حكومة السيد تبون عقودا لشركات فرنسية لإدارة شركتي المترو والمياه، وضاق الخناق على رجال الأعمال الفرنسيين أمام التنافس التركي والصيني.. إلخ.

نفهم إذن أن هنالك مصالح فرنسية قد ضاقت عليها فرص الانتعاش والتمدد والاستئثار بالأسواق الجزائرية، إلى جانب حقد تاريخي لم تنجح فرنسا، ذات الإرث الاستعماري، في أن تبرأ منه..

بسبب ذلك لن يصفح، قطعا، ولكن الجزائر لن تُؤمر فتطيع.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com