"سيزيف" العربي وصخرة القمة

"سيزيف" العربي وصخرة القمة

من ألغازنا الضاحكة المبكية في صحن الطفولة، أن كنّا نقول بنشوة عارمة إن كانت قمة الإرباك أن يُطلب منك الجلوس في زاوية غرفة دائرية، فقمة الفهلوة أن تجد الموقع وتتربّع فيه مُخرِجاً لسانك الساخر على طول مداه.. وإن كانت قمة اليأس أن تحاصرك الخطوط من جهاتك كلها، فقمة الأمل أن ترى سبابتك الصغيرة ممحاة تلتهم الحدود وتخفيها.

عندما كان المعلم ينشر على سبورة الصف خريطة متآكلة بهتت ألوانها وتمزقت أطرافها، ويطلب بصوته المعمور بالحزن أن نخرج واحدا تلو الآخر، ونحدّد وطناً عربياً ممتدا أو ممددا من الماء إلى الماء، كنا نتعثر حينها وترتبك الخطوات بنا؛ ونسأله عن خطوط تشطرنا وتقسمنا، فيحشرج بدموعه متمتما، الاستعمار يا أولاد، ثم يبلع شهيق دمعه ويقول صارما، أكملوا التحديد، وإلا سلختكم يا أوغاد.

كبرنا كما ينبغي لعشب تنتابه طريق تضيق حتى انزلقنا من قمة حلم ساذج تغلغلنا لسنوات، لنجد أنفسنا في قاع يجفّ يتمنى الواحد فيه لو كان ليمونة ليعصر نفسه، كي لا يبكي بلا دموع، أو يحترق بلا دخان، كنا نريد أن نطهّر تلك الطريق ونوسعها لحلم مديد آتٍ، فإذا بالتراب يغدو ملحا يجتاح اخضرار الجراح..

كبرنا أكثر لنجد أمامنا قمما عربية تتوالى مكرورة منذ عقود؛ كانت تشعرنا ببعض الأمل حين ينزّ جرح جديد، وباللاجدوى أحيانا كثيرة بعد أن تتنكأ جراح كانت آيلة للبراء، فما الجديد في قمم تتسلقنا أو نتسلقها دون أن نصل أو تصل؟ لماذا نحافظ على فلكلور إقامتها بعد تلك السنوات أو الخيبات؟ لماذا الإصرار على دحرجتها وقد فقدت بريقها ودهشتها، ولم تعد تثير انتباه من جفت أحلامها وسقمت أمانيهم، ربما مازالت تقام ليضربنا طلق السؤال الواخز ومخاضات الإجابات العمياء.

حين قال العالم الفيزيائي إلبرت آينشتاين إن "الخيال أهم من الحقائق"، كان في باله أن يحفز الناس على قراءة ما بين سطور الحياة اليومية، وما بعد ظواهرها ومظاهرها، وأن يرشدهم إلى استنطاق المستقبل، ورسم ملامحه بما معهم من ألوان اليوم وصحائفه.

تكرم عينك يا أبا النظرية النسبية، سنكون بخيال خصب؛ كي نستشعر حيثيات ومآلات قمم إن غابت لا تذكر، وإن حضرت لا تتابع. وهنا دعني أذكّرك بالأسطورة اليونانية عقب أن استطاع "سيزيف" التغلب على الموت وأصبح خالدا، ما أثار حفيظة الأسياد الذين توعّدوه بانتقام يليق بصنيعه المشين؛ فحكموا عليه أن يدحرج صخرة كبيرة إلى قمة جبل شاهق.

كان سيزيف يرهق نفسه وتخور قواه ليدحرج تلك الصخرة الثقيلة إلى القمة، لكنه ولسوء حظه كانت في كل مرة تنفلت منه قبيل بلوغه القمة بشبر أو فتر أو قيد أنملة، فتسقط إلى بطن الوادي من جديد ليعيد الكَرة مرة إثر مرة. فأي بؤس هذا وأي عذاب شديد؟!.  

لن نحتاج لخيال أخصب يا سيدي لنتبين اللا جدوى واللا فائدة من فعل سيزيف وكده رغم جهده، ولكننا سنحتاجه لنرى إلى أي درجة تغلغل الإحباط في نفس من يرون قممهم تتوالى بين فتور وفتور.

Related Stories

No stories found.
logo
إرم نيوز
www.eremnews.com