"هنا لندن".. الصمت في زمن الصورة!

"هنا لندن".. الصمت في زمن الصورة!

على مدى أكثر من ثمانية قرون كانت دقات "بيغ بن" المموسقة، الشبيهة بدوي ناقوس كنيسة، ثم صيحة "هنا لندن"، تمثلان نداء قصيا؛ قادما، عبر الأثير، ليحرك الفضول من أجل الإصغاء، بل التلصص على ما سيكشفه ذلك "الصندوق السحري" من أخبار وتقارير وحوارات لم يألفها قط، المستمع العربي من إعلامه الوطني "المكبل".

ورغم أن الإعلان عن إغلاق راديو "بي بي سي" العربي هذا، الذي انطلق بثه عام 1938، يأتي كنتيجة بديهية لما بلغته التكنولوجيا من تطور هائل في مختلف المجالات، ومنها الإعلام، حتى كاد جهاز الراديو أن يغيب عن قائمة أجهزة المنازل، إذ أصبح، إن وجد، مجرد ديكور تراثي، غير أن لمثل هذا الخبر وقع خاص في نفوس أجيال رافقت لعقود هذه الإذاعة العتيدة، واستأنست لأصوات مذيعيها.

إغلاق هذه الإذاعة، التي اكتسبت صفة غير رسمية "رفيقة الأجيال"، لا بد أن يوقظ الحنين إلى أزمنة ماضية حين كانت تتسيد المشهد الإعلامي دون منازع، فإزاء الصحف والإذاعات الرسمية، وبعد ذلك التلفزيونات الوطنية، كانت البي بي سي تنفرد ببث أخبار وتقارير وتحليلات وتعليقات لم تعتدها الأسماع، من الإعلام الرسمي "الموجه"، المتشبث بلغة خشبية تتكرر حتى لحظة كتابة هذه السطور.

وعلاوة على هذه التغطية المختلفة للأحداث التي كانت ربما تحدث بالقرب من المستمع العربي، دون أن يعرف عنها شيئا، ليلجأ إلى من سيقوله له الصوت القادم من العاصمة البريطانية، فإن هذه الإذاعة حرصت، على لغة عربية فصيحة ناصعة، تتضمن مفردات وعبارات غدت ماركة مسجلة لهذه الإذاعة التي كانت تمول من جيوب دافعي الضرائب البريطانيين.

مزجت الإذاعة البريطانية بين لغة القواميس "المنسية"، واللغة اليومية المتداولة، ووظفت هذا المزيج اللغوي المتناسق في ابتكار أسلوب تحريري رصين، بدا "موضوعيا" و"محايدا" لأبعد الحدود، ولم يكن يشغل بال القائمين عليها، حسب متابعتنا، السبق الصحفي المشغول على عجل، بل راعت قبل كل شيء التأني وبالتالي المصداقية، وأولت اهتماما لإشباع فضول المستمع بالكثير من البرامج والتحليلات والحوارات التي تضيء دلالات الخبر وأبعاده السياسية وتأثيراته كما تجلى في برامج من قبيل "حديث الساعة" و"السياسة بين السائل والمجيب"، "بلا قيود"، "نقطة حوار"... وغيرها، فضلا عن فتراتها الإخبارية "العالم هذا الصباح"، و"عالم الظهيرة"، و"العالم هذا المساء"..

هذه البرامج والنشرات، تداولت على نقلها أصوات كثيرة تركت بصمتها في ذاكرة المستمعين العرب، من محمود المسلمي إلى جورج عازر وهدى الرشيد وكارم محمود وعفاف جلال وهالة مراد ومديحة المدفعي وماجد سرحان وأيوب صديق وفؤاد عبد الرازق ورشاد رمضان وعباس شبلاق وسلوى الجراح ومنيرة الشايب ومحمد صوان وسامية الأطرش، وغيرهم ممن يصعب ذكرهم في هذا العجالة، فضلا عن قامات أدبية كبيرة استعانت بها الإذاعة مثل حسن الكرمي والروائي السوداني الطيب صالح وفاروق الدمرداش.. وسواهم.

إعلاميون عرب كثر، حالفهم الحظ في العمل ضمن فريق بي بي سي، ولم يكن لهم أن يحققوا تلك "النجومية الخفية" من خلف الميكروفون، لو بقيوا يعملون في إعلام بلادهم الذي يلقن الإعلامي ما ينبغي قوله حرفا حرفا دون ترك أدنى مجال للاجتهاد أو التجريب أو الجرأة...

من هنا، وما إن بدأت الفضائيات العربية بالانتشار منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، واتسمت البعض منها بـ"استقلالية نادرة"، حتى شق الكثير من هؤلاء طريقهم نحو تلك الفضائيات التي سعت إلى الخروج من "عباءة الرسمي"، والاهتداء لخطاب إعلامي مختلف، وبذلك توفرت لمذيعي البي بي سي بيئة ملائمة حققوا خلالها نجومية جديدة، ولكن، هذه المرة، على الشاشة وبملامح واضحة ومعروفة...

ولم تكتف تلك الفضائيات بتعزيز طواقمها من لدن تلك الإذاعة العريقة، التي يصفها خبراء الإعلام بـ"المدرسة"، بل استعارت منها كذلك الكثير من قوالبها التحريرية ومفرداتها ومصطلحاتها وتراكيبها...

على مدى أربع سنوات، عندما كنت طالبا في قسم الصحافة في جامعة دمشق، مطلع التسعينيات، لم يتحرك مؤشر جهاز الراديو العتيق، الذي كنت أملكه، عن ترددات إذاعة لندن..

كانت نشرات وتقارير هذه الإذاعة ترافق صباحاتي ومساءاتي، وما بينهما كنت أحرص على حضور المحاضرات الجامعية..

ورغم تقديري لأساتذة أجلاء استفدت كثيرا من خبراتهم وأفكارهم وأبحاثهم بخصوص الإعلام وأذكر منهم مثلا الدكتور أديب خضور والدكتورة فريال مهنا وحسين العودات ويحيى الشهابي.. وسواهم، غير أنه، وبقليل من المجازفة، يمكنني القول، إنني اكتسبت الخبرة الأكبر من مواظبتي على سماع "بي بي سي"، أكثر مما اكتسبته من الجامعة..

مدرستي تلك، ومدرسة أجيال كثر، على وشك الإغلاق، الآن، لكن أصداء أصوات مذيعيها ستبقى مضيئة في الذاكرة، وناصعة في أرشيف الإعلام الناطق بلغة الضاد.. فهي تجربة حققت الكثير، وبات عليها الآن أن تخلد إلى الصمت في زمن تحول فيه كل شيء إلى "صورة على شاشة"...

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com