في شيخوخة الإبداع.. ومديح الصمت
في شيخوخة الإبداع.. ومديح الصمتفي شيخوخة الإبداع.. ومديح الصمت

في شيخوخة الإبداع.. ومديح الصمت

عادةً ما يهتم النقاد وغيرهم ببدايات الكتّاب والمبدعين عموماً.. متى تفتّقت موهبة الكاتب أو الفنان قبل تفجّرها ثم اشتغالها بأقصى طاقتها؟ ما السياقات التي كانت قادحة لها؟ وكيف تطورت ونمت لتقود صاحبها على طريق فرض الذات والتميز وصولاً إلى ذروة المجد؟

غير أن أغلب هؤلاء النقاد عادة ما يتجاهلون خواتيم التجربة الإبداعية، كيف ومتى شحت ينابيع الإبداع؟ ومتى خبت شعلة القلب وانكسرت أجنحة الخيال؟ وكيف هوى النجم من عليائه؟

السؤال الأهم في الحياة كما في الإبداع، على ما نُقدّر، هو سؤال النهايات.

هل لنهايات المبدعين علاقة بالزمن البيولوجي الذي يؤشر على شيخوختهم أم أن الإبداع يستعصي على الزمن ولا يعبأ بتجاعيد الوجه ولا برعشة اليدين؟ وهل هناك تساوق بين الزمنية البيولوجية والزمنية الإبداعية، أم أن الأمر على خلاف ذلك؟

وإذا ما حدث أن ترهّلت التجربة الإبداعية واستنفدت طاقاتها مع دخول صاحبها مرحلة التهرم، أفلا يمكن للشعور بالنهاية الوشيكة أن يصبح موضوع أثر إبداعي يعيد لصاحبه حياة أخرى ويهب له ولآثاره عمرا جديدا؟

بعض هذه الأسئلة وغيرها طرحتها الكاتبة الفرنسية ماري أوديل أندريه في مؤلفها "في الشعرية الاجتماعية للشيخوخة الأدبية"، وقد جاست المؤلفة في تجارب بعض مشاهير الكاتبات والكتاب الفرنسيين، منطلقةً من فرضية أن الشيخوخة تجربة وجودية فردية يعيشها المبدع بشكل مخصوص، ولكنها تمثل أيضا تجربة اجتماعية ثقافية يساهم الجمهور والمتلقون في بنائها.

هذا الجمهور وهؤلاء المتلقون هم غير ثابتين وهم متغيرون وقد تتطور أذواقهم أو آفاق انتظاراتهم اتساعا أو تقلصا، وقد يتراجعون عما كان، في الماضي، يُلهب خيالهم ويوفر لهم متعة فكرية أو فنية عنها يبحثون.

قد يكرّس الجمهور كاتبا أو ممثلا أو مبدعا في مجال من المجالات لعقود طويلة، ولكنه ينتهي بأن ينفض منه يده بل ويسقطه؛ بسبب تحولات عديدة ومعقدة، من فضائه النفسي والمعرفي أو الفني.

وهكذا تنظر الباحثة الفرنسية لمسألة شيخوخة الأدب والإبداع عموما من زوايا ثلاث، وهي زاوية شيخوخة المبدع وأثرها في إنتاجه، ومن زاوية تهرّم التجربة الإبداعية، وأخيرا من زاوية المكانة التي يكرسها الجمهور للمبدع كاتبا أو فنانا.

على المستوى الأول، تُقر ماري أوديل أندريه أنه من الصعب أن نختصر تجربة المبدع الإنسانية في معادلة رياضية وأن نحتسبها بالسنوات عبر مسار خطّي، تجربة تبدأ بفتوة الجسد وحيويته وتنتهي بتسلل الوهن إلى مفاصله.

عبر هذا المسار يقوم المبدع تدريجيا بتنفيذ ما يُنتظر منه من مهمات، مثل جندي في معمعان ساحة المعركة، إلى أن تستهلك الطاقة وتنفد ويشحّ نبع الإبداع، إلا أن هذه النظرة الميكانيكية في الربط بين توهّج الإبداع وسن صاحبه تفنّدها العديد من الحالات.

وتحضرني هاهنا حالة الفيلسوف إدغار موران الذي احتفل أخيرا بعيد ميلاده الثاني بعد المائة وهو في كامل عافيته وتوهّجه الذهني، ولا ينفك موران عن إعطائنا دروسا في الفلسفة وفي الحياة، وهو لا ينقطع عن الكتابة وتقديم المحاضرات، ودائم التحريض على الحب والنهل من متع الحياة ومباهجها.

استمعت إلى موران بمؤسسة بيت الحكمة في تونس وكان قد استوى على الثامنة والتسعين من عمره.. قدم الرجل خلاصة فكره وعصارة تجربته بسعادة طفل وهو يلعب وحيوية شاب وهو يقدم اكتشافاته الأولى، وبثقة من شرب من رحيق الحكمة واستخلص زبدة الحياة، ولم يكن من اليسير، وأنا أترجم محاضرته ترجمة فورية، متابعة تدفق أفكاره بذلك الإيقاع المذهل.

يحضرني أيضا الممثل الكبير جان غابان، أحد كبار الممثلين المُفضلين لديّ، ممن تألق حضورا وتمثيلا في أخريات أيام حياته، كأنه لم يخلق إلا لتشخيص أدوار من هم في مثل سنه.

لا يمكن أن ننسى أيضا شارل ازنفور، الذي قدم وهو في الثمانين أجمل حفلاته لجمهوره الأرمني.

يعود بنا برنارد شو إلى نفس رفض فكرة العلاقة الميكانيكية بين تقدم سن المبدع وترهّل طاقته الإبداعية، فيقول وهو يرد على منتقديه الذين لم يكن يرضيهم أن يواصل شو ممارسة الكتابة وهو في "أرذل العمر": "إنهم وحدهم الذين جعلوني أشعر أنني كبرت، مع أنني رأيت التخريف في كل ما يقولون، فليس فيهم واحد قادر على أن يقرأ أو يفهم ما أكتب، فكيف إذا جلسوا للكتابة، أما إذا متّ فليس لأنني عجزت عن الفكر والإبداع، ولكن لأن الناس قتلوني".

نعم يحدث أن يقتل الجمهور مبدعه تجاهلا أو تنكرا وعدم اعتراف، وكأنه يطلب منه أن يموت قبل أن ينتقل إلى موته الطبيعي الموحش.

شخصيا عرفت كتّابا تونسيين وعربا آخرين عاشوا موتهم قبل أن ينتقلوا إلى عالم آخر ربما يكون أشد رحمة بسبب تجاهل الجمهور وعدم شيوع ثقافة الاعتراف والوفاء.

بعض الكتّاب، كما تنبهنا ماري أوديل أندريه، يصرون على كتابة سيرهم الذاتية أملا في أن تمنحهم حياة ثانية.

أذكر أن الدكتور فاضل الجمالي، رئيس وزراء العراق الأسبق والمفكر الكبير الذي منحه الزعيم الحبيب بورقيبة حق اللجوء السياسي في تونس، طلب مني في التسعينات، وكان يكتب في صحيفة "الرأي العام" التي كنت أتولى مسؤولية تحريرية فيها، أن أساعده في كتابة مذكراته.

كان الدكتور الجمالي يردد، وهو يتناول كوب الشاي في مكتبي: "أريد أن يعرف القراء العرب..". كان يريد أن يظل الاعتراف أو حتى مجرد التذكر بحجم الوطن.

لا أعرف إن كانت قد صدرت للدكتور الجمالي مذكرات، لم أساهم مع الأسف لضيق الوقت في تسجيلها، لكنها كانت ستمنحه ولا شك بعضا من الفرح وهو الذي كان يعيش مأساة شخصية بسبب مرض ابنه الوحيد مرضا عضالا، وبسبب مأساته القومية.

كتابة المذكرات هي إذن آلية أو وسيلة من وسائل طرد موت الكاتب أو تأجيله، هي كتابة على حافة الموت، هي ما تسميه الباحثة الفرنسية "الكتابة الفائضة عن الحاجة"، ولكنها تظل حاجة ملحّة لتحقيق إرادة عدم التوقف عن الكتابة أو عن الإبداع، عموما، عند صاحبه، تظل سبيلا لرفع صوت الممانعة لمديح الصمت الذي يطالبه به البعض.

الضجة التي أثارها خروج بعض المئات من المتفرجين من حوالي 5 آلاف متفرج أثناء تقديم الممثل الكوميدي التونسي لمين النهدي مسرحيته "نموت عليك" تدخل في نطاق هذه الأسئلة المطروحة حول علاقة الإبداع بالعمر البيولوجي وعلاقته بالجمهور/ الجماهير.

المسرحية تطرح المشاكل التي عاشها المواطن التونسي خلال العشرية السوداء، بطل المسرحية "الوان مان شو" التي كتبها القدير منصف ذويب رجل على وشك الانتحار بسبب هذه المشاكل، إلا أن محيطه يريد أن يوظف، كلّ على شاكلته، هذا الانتحار لفائدته.

خلال حوالي ساعة ونصف الساعة لعب لمين النهدي أدوار أكثر من ثلاثين شخصية دون توقف، إلا أن بعضا من الجمهور امتعض من المسرحية؛ لأنه أقبل عليها التماسا للقفشات والملح التي تعوّد سماعها من الممثل الكوميدي، ودعاه، تبعا لذلك، بلهجة قارصة مستهجنة أن يلزم بيته.

الصديق الشاعر منصف المزغني كتب رأيا في هذا الموضوع نراه جديرا بالاعتبار: "هنالك فنان حر لا يستطيع أن يكون عبدا لدى جمهور هو نفسه متقلّب ويتوحّم كما يريد على من يريد، وقد لا يعرف ما يريد، والفنان هو الذي يحالفه الحظ إلى حين ليعرف سر الجمهور، الذي لا يعرف أصلا ما يريد، ولكنه قد يريد ما لا يخطر على أهل الإبداع".

أما المسرحي والناقد الفني أنور الشعافي فقد ذهب بعيدا في تشخيص تعامل الجمهور مع الفنان عندما قال: "عندما عجزنا عن التداول السلمي على السلطة، فإننا أصبحنا نسعى إلى تطبيقه على الفنانين".

وفي كل الأحوال، "يظل الطاعن في السن غير مرغوب فيه" كما يقول رولان بارت، ربما لأنه يمثل الحقيقة التي تنتظرنا، ولو بعد حين.

Related Stories

No stories found.
logo
إرم نيوز
www.eremnews.com