عمان الشاعر والشارع
عمان الشاعر والشارععمان الشاعر والشارع

عمان الشاعر والشارع

مازالت أمنيتي الصغيرة أن يكون عمدة أو أمين أو رئيس بلدية كل مدينة كبيرة شاعراً، مع أنها أمنية عويصة تدخلني في اشتباك مرير مع مهندسين يرون أنهم الأقدر من غيرهم في المهمة، وكذلك مع الفيلسوف اليوناني أفلاطون، مخترع المدينة الفاضلة، سيما بعد أن طرد الشعراء منها، دون أن يترك لهم فيها مفحص قطاة..

الشاعر يطرّي المدنية ويندّيها، ويوشّيها بنكهة تكسر حدة حجارتها، وتبرّد وهج إسفلتها؛ لتكون قابلة للحياة مقبلة عليها.

المدن العظيمة لا تقيمها الجسور المعلّقة، ولا ترفعها الأبراج ماخرة الغيوم، ولا تسيّر أعمالها الأنفاق الذكية، والشوارع النظيفة ذوات البهجة فحسب، بل تحتاج إلى خيال خصب جموح يمزج ماضيها بحاضرها ليضفي عليها مستقبلا ذا لمسة حضرية تصنع روحا موحدة لساكنيها..

هي تحتاج إلى شاعر- حتى ولو لم يكتب شعراً- ليؤنسن فيها الشجر والأرصفة والشوارع والميادين..

المدن ليست أسقف بيوت مُقرمدة شامخة بحجرها المستورد الثمين، إنما نساء عامرات بالأنوثة والحب، وتنتظر من يستنبط منها كل هذا.

جاهرت بأمنيتي تلك في جلسة دعانا إليها أمين عمان الدكتور يوسف الشواربة رفقة بعض الزملاء الكتاب؛ ليضعنا في صورة خطة مدينته الإستراتيجية للأعوام الخمسة القادمة، وضمت 212 مشروعا ومبادرة تحقق 15 غاية و30 هدفا بقيمة إجمالية تقل قليلا عن المليار دينار أردني (مليار ونصف المليار دولار تقريبا)..

وهذا رغم أن مدخولاتها تتجاوز قليلا الربع مليار دينار في السنة، يصرف أكثر من نصفها رواتب لجيش عريض من الموظفين المكدسين، وما بقي يخصص للنفقات التشغيلية. وهذا مبشر بالخير، لكنه غير كافٍ لخلق مدينة خضراء، صحية، تحقّق الرضا والاحتياجات لساكنيها، مع سيرها الحثيث في درب الأنسنة المفقود المنشود.

غالبية المشاريع تصبّ في صالح الشارع، وتنسى روح الشاعر؛ فعمان التي انتزع نهرها الوحيد قبل عقود، وسقف ليغدو شارعا باسم شعبي يعرف "بسقف السيل"، كانت من أول التجمعات الحضرية المستقرة ذات الثقافة الواضحة خلال الثورة الزراعية الإنسانية، وتماثيل عين غزال الفريدة من نوعها تشهد بهذا في الألف السابع قبل الميلاد، ثم تعاقبت عليها حقب من العمران مليئة بالأنسنة، مرورا بربة عمون وصولا إلى مدينة الحب الأخوي "فيلادليفيا"، سيدة مدن حلف "الديكابولس" الشهير.

عمان اليوم تحتاج مشاريع تضخ دفق الأنسنة إلى قاطنيها بذكاء من جديد؛ لتجعل بعضهم يتخلى عن شعوره بأنه يقيم في فندق عابر. هي بحاجة إلى انخراط إنساني يعيد روحها المبتورة إليها.. تحتاج إلى حالة توصلنا إلى زمن يصدح فيه كل قاطن فيها أنه عماني..

أكثر من ثلثي سكانها لا في يتفاعلون مع تنميتها الإنسانية والاجتماعية، ولا يشاركون في انتخاباتها البلدية والبرلمانية، ربما لشعورهم أنهم غير قادرين على التغيير، ولكن هذا نكوص واضح من المفروض أن تكون له أولوية قصوى لدى القائمين على شؤونها.

في عمان تجد قلة قليلة يبادرون القول إنهم عمانيون، لم أسمعها طيلة السنوات الماضية إلا نادراً، بل يقول أكثرهم، على سبيل المثال لا الحصر: أنا كركي، عجلوني، ربداوي، سلطي، عراقي، بوسني، يماني، مصري، شركسي، شيشاني، سوري.. لا أحد يفكر في مدينة يعيش خيرها، ويتأبط جبالها وينعم بفجرها الأخّاذ، حينما تمنحنا فضاءها الجديد كل يوم، مسكينة عمان إذن، وكأنها خبز شعير مأكول مذموم.

نحيي الإستراتيجية الجديدة وعنياتها بالشارع النظيف وبالنقل والتكنولوجيا والرفاهية وتخفيف الازدحامات وتقليص مساحة الإسمنت المدلوق لحساب الشجر والحدائق.

وسنحيي أمانة عمان أكثر وهي تنخرط في مشاريع تُعنى بالجانب الإنساني الاجتماعي الثقافي، الداعم للسلوك المدني، والمطوّر له.. فأي إستراتيجية ستتعثر بقسوة، إن لم تزاوج بين الشارع والشاعر؟!

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com