الخوف كأنه كلب (1 من 2)
الخوف كأنه كلب (1 من 2)الخوف كأنه كلب (1 من 2)

الخوف كأنه كلب (1 من 2)

"بابا، أنت لو بتحبني بجدّ لازم توافق إني أجيب كلب أو قطة؟".

ما الحيلة مع ضربة عاطفية خُطّافية كهذه إلا أن ترد على الابتزاز العاطفي بمثله، فتقول مثلاً وأنت ترسم على وجهك ملامح الأسى: "وأنتي لو بتحبيني بجد، ما تدخليش البيت كلب أو قطة لإن ده لو حصل ممكن أتعب وأروح للدكتور".

لكن البنّوتة كبرت خلاص، وتجاوزت المرحلة التي يسهل فيها الضحك عليها بكلمتين، ولذلك لن تمر إجابة كهذه بسهولة، بل ستجلب حزمة من الأسئلة المتوالية عن طبيعة وتفاصيل المشكلة الصحية التي تمنعك من السماح للقطط والكلاب بدخول البيت، وأي وقت ستقضيه بصحبة شفيع الحيارى جوجل لتأليف إجابة متماسكة عن أسئلتها، ستقضي هي وقتاً أقل منه في رحابه لكشف الثقوب التي تمتلئ بها روايتك المستندة في أغلبها على مصادر عربية مليئة بأخطاء الترجمة وبدائع الفَتْي.

"طيب من الآخر وبصراحة أنا باكره الكلاب والقطط كره العمى، ولا يمكن أسمح بدخولهم البيت".

ستضطر إلى إعلان الكراهية في إجابة كاذبة، لأنها أسهل بكثير من إعلان الخوف في عبارة صادقة من نوعية: "بصراحة أنا باخاف موت من أي حيوان أليف أو غير أليف، ولولا إن العصافير بيتحبسوا في قفص وأسماك الزينة في حوض ما كنتش سمحت بيهم قبل كده".

كبرت البنت، ومع ذلك لا زلت طمعاناً في البقاء في مرحلة الأب القوي المسيطر الذي يبادر لقتل الأبراص والفئران، مع أنك تعيش منذ سنوات في بيت لا يمكن أن تتشطّر فيه إلا على الصراصير والحشرات الطائرة التي قادها حظها الدَّكَر لدخوله، وحتى هذه لم تعد تحظى بنفس استحسان بنتك القديم حين تقتلها، بل تطالبك بإمساكها حية وإعادتها إلى الطبيعة لكيلا تساهم في اختلال توازنها بفعلك البربري، وبدلاً من الدخول في مناقشات بيزنطية، تعدها أنك ستفعل المرة القادمة.

منذ أن اجتاحت حياتنا الكورونا بطبعاتها المتعددة، وقالوا في المدرسة إن تربية الحيوانات الأليفة ستساعد الطلاب نفسياً على مواجهة آثار الحبسة في البيوت، شَبَطَت البنت في موضوع تربية الكلاب والقطط، وأصبحت مشاهدة صور وڨيديوهات صديقاتها مع حيواناتهم الأليفة تشكل ضغطاً نفسياً عليها وعليك وعلى الذين خلّفوك، فما العمل؟

ستبدأ بالتسخيف "الموضوعي" من الفكرة بالحديث عن غدر القطط التي تأكل وتنكر، والتي تباغت من يربونها بالعضّ الخطير الذي يمكن أن يسبب أمراضاً خطيرة سيعينك جوجل على ذكر أمثلة مرعبة لها، فضلاً عن شعرها المتطاير الذي يمكن أن تجده في طعامك وشرابك، وفوق كل ذلك قيامها بإتلاف الأثاث والملابس بالخربشة العدوانية التي تزيد في الشقق الصغيرة.

وقبل أن تستفيض في ذكر ملابسات إدانتك للقطط التي يجب أن نكون رحيمين بها فلا نحكم عليها بالحبس معنا في مساحات مخنوقة البراح، ستقاطعك ابنتك مؤيدة لكلامك، وتقول لك إنها لم تكن تحب القطط إلى هذا الحد، وإنها سعيدة بأنك متفق معها بأن الكلاب برقبتها ولذلك هي أولى بالرعاية والتدليل.

السكوت هنا علامة الرضا، ولذلك يجب أن تبدأ بلا هوادة في الحديث عما سيعانيه المخ والأعصاب من أضرار دَوْشة الكلاب التي لا تكف عن النباح طيلة اليوم مثل كلاب جارنا، لن تقول لها إنك حلمت بخطف وتسريب كلاب الجار التي تبدأ حفلة نباحها اليومي مع دخولك إلى السرير صباحاً، والتي تشم رائحة خوفك حين تمر إلى جوارها فتزيد في إرعابك بنباحها الذي لا يهدأ إلا حين يشخط فيها جارك البورتوريكي اللطيف الذي لا يفهم لماذا تخاف من كلابه المسالمة؟

حين ترد عليك بمعلومات مفصلة عن أنواع الكلاب التي يمكن أن يكون نباحها أقل وحضورها أهدأ، ستضطر لمقاطعتها بالحديث عن الوقت الذي سيضيع في تمشية الكلاب كل يوم لكي تقضي حاجتها وتهدأ أعصابها وتقل عدوانيتها، وهو الوقت الذي يمكن أن تستغله في المذاكرة، خاصة أنها تضيع وقتاً لا بأس به في الرغي والسوشيال ميديا، وهنا ستفاجئك بسؤال مباغت: "معقولة يا بابا تكون شايف إن تربية الكلاب حرام عشان نجسة؟ أنا قريت إن الموضوع ده مش حقيقي وإن تربية الكلاب مش حرام".

لم تكن تنوي أن تلجأ بالطبع إلى هذا السلاح الفاسد، لأنك لست مقتنعاً بكل ما يقال فيه من مرويات متهافتة سبق أن حاججت فيها أصدقاء لك مستعيناً بدراسة كتبها أستاذك حسين أحمد أمين ونشرها في كتابه (دليل المسلم الحزين)، لكن يمكن ألا تنكر أنك فكرت في لحظة ضعف في استخدام هذه الحجّة لعلها "تحسم الجدل"، قبل أن يعيدك عقلك إلى الصواب، ويذكرك بأن جوجل قضى على "حسم الجدل"، ولكن أكثر الناس في بلادنا لا يعلمون.

بعد أن نفيت بحماس تلك التهمة عن نفسك، ستلجأ إلى سلاح تظنه مضموناً: الجمع بين الطب البيطري والتكلفة الاقتصادية، فتختار لهجة تحرص على أن تكبح جماح التقريع واللوم فيها لكيلا تغضبها، وتحدثها عن الروح التي سنكون مسؤولين عنها أمام الله والتاريخ والسلطات المحلّية، ويجب أن نحسن العناية بها لو أصيبت بأي مرض، لذلك لن نكتفي فقط بإطعامها وتنظيفها ومساعدتها على قضاء حاجتها والمشي بها لتشمّ الهواء النظيف، بل يجب فوق كل ذلك أن نقوم بتطعيمها ضد أي أمراض وحمايتها من أي ڨيروسات خطيرة، وأن نعرضها على الطبيب البيطري بانتظام، وأن نشتري لها الأدوية إن توعّكت صحتها.

بالطبع تهز ابنتك رأسها بحماس، وقد خدعها حياد لهجتك الظاهري، فتتصور أنك تأخذ عليها تعهداً بمراعاة الكلب الذي اقتنعت بأهميته، وحين تقسم لك أنها ستضعه في عينيها، ولن يحدث له ما حدث للأسماك التي هجرت تربيتها قبل سنوات، بعد أن ظلت تموت بمعدلات هستيرية في الحوض بسبب الإفراط في تغذيتها أو تجويعها، أو السلحفاة التي قررت أختها الكبيرة أن تربّيها أحسن تربية، فقررت السلحفاة أن تأتي بما لم يأتِ به الأوائل من السلاحف، وانتحرت رمياً لنفسها من الدور السادس.

ستستغل الفرصة للثناء على نضوجها وتحملها للمسؤولية، وستسألها عما إذا كانت تعرف أسعار الأطباء البيطريين التي أصبحت أغلى من أسعار الأطباء البشريين، لأنها لا تدخل ضمن خدمات التأمين الصحي، ثم تقول لها إنها لم تعد صغيرة ويجب أن تكون على دراية بتكاليف المعيشة التي يزيد غلاؤها عليك، مثلما تزيد غلاوتها عندك هي وأختها، وحين ترى في عينيها انكسار من عرفت أن حجتك أقوى منها، تلوم نفسك السيكوباتية لأنها فرحت بحسم الجدل، وتأخذ ابنتك في حضنك، وتقول لها إن هذا الوضع المشين سيتغير بالتأكيد، وإننا سنعيش قريباً في عالم سعيد تحظى فيه كل الكائنات الحية بالرعاية الصحية دون استغلال ولا تفرقة.

لكن كيف يمكن أن تهنأ بانتصارك وجوجل اللعين في الجوار؟

بعد يومين ستعود إليك بقائمة بالعيادات الخيرية التي تتكفل بعلاج الحيوانات الأليفة مجاناً إذا لم يستطع أصحابها دفع ثمن العلاج، أو تقوم بتقسيط تكاليف العلاج أو عمل خصومات عليها، وستضطر آسفاً إلى تمزيق كل أقنعتك التي لم تنفعك ببصلة، وتقول لها بوضوح تأخر طويلاً: "بس ساعتها مين هيوافق إنه يقسّط لي تكاليف علاجي من الأرتكاريا والنوبات العصبية اللي هتيجي لي كل ما الكلب أو القطة يقربوا مني، ولا انتي مهتمة بيهم وأبوكي نفسه مش مهم".

الآن عليك أن تصمد أمام نظرات الصدمة والاندهاش التي يمكن أن تترجمها إلى عبارات مليئة بالتساؤلات عن هذا الخوف المستغرب من أب لطالما تصوّرَته شجاعاً جريئاً من خلال القصص التي طالما حكاها عن مغامرات طفولته وصباه وشبابه، واعتادت أن يشجعها على المواجهة إن تملكها الخوف من امتحان عسير أو متنمّر رزيل أو مدرس سخيف..

وحين تبدأ في التعبير عن صدمتها بصوت مختنق بالبكاء، سيكون عليك أن تصارحها بتاريخ مخاوفك دون مواربة، لعل تعاطفها معك يغلب غضبها منك، كلما تذكّرتْ أنك كتبت عليها أن تعيش بلا حيوانات أليفة، على الأقل حتى تخرج من بيتك، وتبدأ حياتها بعيداً عن مخاوفك الدفينة منذ طفولتك.
..
نكمل الأسبوع القادم بإذن الله.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com