في حضرة القمح
في حضرة القمحفي حضرة القمح

في حضرة القمح

لا علاقة للأمر بالأساطير والخرافات والكرامات، أو ألاعيب "الفوتوشوب": شاب يقطع نهر دجلة في بغداد سيرا على قدميه، يتمشى، يركض، يستلقي ويلهو فيما تبقى من ماء لا يصل إلى الركبتين، في مكان قال نشطاء عراقيون إنه يقع في منطقة كانت مياهها عميقة ما بين جسري الجمهورية والأحرار.

حال الفرات ليس بأفضل من حال دجلة، وقائمة أنهار الهلال الذي كان خصيبا، أصبحت قيعانها مراعي للماشية، وما تبقى منها في طريقه إلى موت وشيك.

لم تعد أنهار سوريا والعراق في الألفية الجديدة، مرادفا لمعنى الحياة والوفرة، بل تذكيرا يوميا بصورة الموت على أطلال البليخ والخابور، والزابين الأعلى والأسفل، وسيروان وديالى وكارون، فيما يترقب الرافدان التوأمان دجلة والفرات معجزة تنقذهما من هذا المصير.

منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا قبل نحو ثلاثة أشهر، ولا حديث للمسؤولين العرب إلا عن القمح: المخزون يكفي لعام، لستة أشهر أو أسابيع معدودة..

البحث عن بدائل لقمح أوكرانيا. رفع الأسعار مؤقتا حتى تنجلي الغمة في أوروبا.. ترشيد استهلاك القمح.. تشجيع الزراعة المنزلية.. شد الحزام وتفهم عجز الحكومات عن إيجاد حلول سحرية.. تبشير بعقد اتفاقيات مع أستراليا وكندا وأمريكا والهند لتدارك النقص في القمح..

المسؤول إياه وقبل أن ينتهي من إعلان "النصر" تفاجئه الهند بحظر تصدير القمح حفاظا على أمنها الغذائي، بعد موجة حر قياسية أدت إلى تقليص الإنتاج، لينفجر سؤال من لا حول لهم ولا قوة: من أين نأكل؟!.

فجأة، يكتشف المسؤولون حقيقة التغير المناخي، وتدهور الإنتاج الزراعي في العالم العربي، ومأزق الانفجار السكاني، وخطورة سياسات تركيا وإيران وإثيوبيا على الأمن المائي العربي، فيتسابقون لهجاء حرب أوكرانيا وكأنها مؤامرة علينا بعدما وثقنا أن سهول أوكرانيا ليست سواد العراق والجزيرة السورية، وأن نهر الدنيبر لا يشبه دجلة والفرات، ولن يطاله الجفاف.

يقترب عدد سكان الدول العربية من 450 مليونا، والرقم مرشح للتضاعف بعد ثلاثين عاما، ومازلنا حتى هذه اللحظة عند سؤال القمح.

أزمة الغذاء الكارثية، البعيدة عن أي حل واقعي في المدى المنظور، جعلت من كل عربي - رغما عنه - مواطنا عالميا بامتياز، لا يفارق شاشات التلفزيون والمنصات الرقمية، لمعرفة آخر أخبار الحرائق وموجات الجفاف والفيضانات في أوروبا وأمريكا والهند وأستراليا، وانعكاساتها على إنتاج الحبوب، لإعادة برمجة أولوياته ومواءمة ميزانيته مع أي مستجد في آخر الدنيا.

يحفظ المواطن العربي عن ظهر قلب ما سيقوله المسؤول على شاشته الوطنية، وعلى الأرجح لن يصدق بحكم تجربته الطويلة المرة، أي حرف من تحليلاته وتبريراته وتطميناته، وثقته بالمستقبل، وقاموس هجائه لمروجي شائعة الجوع.

لا يملك من لا حول له ولا قوة، وقد يئس من أرضه، إلا الدعاء لأنهار أوروبا وأمريكا والهند بطول العمر، وتأدية صلاة استسقاء ليجود الله على حقول قمحنا في أمريكا وأستراليا بالمطر.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com