أبو الزيك (3 من 3)
أبو الزيك (3 من 3)أبو الزيك (3 من 3)

أبو الزيك (3 من 3)

بعد النجاح الساحق الذي حققه مسلسل (أهل كايرو)، كان يفترض أن يلعب زكي فطين عبد الوهاب دوراً أكبر وأهم في مسلسل بعنوان (صفحة جديدة)، كنت قد بدأت في كتابته وكان سيخرجه محمد علي، لكن المسلسل تأجل بعد أن اندلعت ثورة يناير، وكان لدينا أمل في استئنافه بعد الثورة بفترة، لكن ذلك لم يحدث مع الأسف الشديد، لكني ظللت أسعى لتكرار التعاون مع زكي فطين كممثل، بل وكمخرج.

في أيام التحرير الثماني عشرة، لم ألتق بزكي ولا مرة في زحام الميدان القريب من بيتي وبيته، لكنني كنت أسمع عن تواجده المستمر في الميدان وقيامه بتوزيع سندوتشات وعلب عصير على بعض المعتصمين، وبدا لي أن حرصه على البقاء بعيداً عن خيمة الفنانين الكائنة في قلب الميدان، واختياره البقاء مع عموم الناس مناسب أكثر لشخصيته وطباعه، وحين التقيت به بعد رحيل مبارك، وسألته مازحا عن موضوع السندوتشات وعلب العصير ونصيبي فيهما، قال إن ما سمعته مبالغ فيه، وأنه كان يتمنى أن يقدم كل ما لديه، لكي يرد لمن قابلهم في الميدان بعضاً من جميل مشاعر السعادة والفخر التي عاشها لأول مرة.

بعدها بأشهر التقينا صدفة بالقرب من بيتي في شارع منصور بوسط البلد، وفرحت برؤيته لأني كنت أفكر قبلها مباشرة في مشروع مجنون، هو استكمال فيلمه (رومانتيكا) لنرى ما فعلته الدنيا وتقلباتها بأبطاله خصوصاً بعد كل ما جرى في منطقة وسط البلد من تغيرات جوهرية، وحين طلبت منه أن نجلس قليلاً لأحكي له عن تصوري، نظر إلى ساعته قلقاً فتصورت أنه لم يحب الفكرة، ورجوته أن يمنحني فرصة حتى أنتهي من كتابة المعالجة التي في بالي وسأرضى بعدها بحكمه.

قال زكي إنه لا يمانع أن أفعل بالفيلم ما أريد لأن علاقته به انتهت من زمان، وأنه مضطر لكي يتركني الآن لأن لديه موعداً مع معالجه النفسي الذي تقع عيادته في العمارة التي نقف تحتها، ثم سألني بجدية: "اوعى تكون ما بتروحش لمعالج نفسي؟"، وحين قلت مازحاً إنني ابن طبقة لا تؤمن بالعلاج النفسي بقدر إيمانها بالعلاج العقلي الذي يحدث بعد الانهيار الكامل، لم يتجاوب مع هزاري، ووصف لي كافتيريا قريبة طلب أن أنتظره عليها حتى ينتهي من الجلسة، ويأتي لإقناعي بضرورة التعامل مع نفسي ونفسيتي بجدية، لأن التعافي على النفس والتحميل عليها أكثر من اللازم هو طريق الخراب الأكيد.

عاد زكي من جلسته رائق البال متحمساً للحكي والتسكع، وتحدث ليلتها مطولاً عن مركزية دور الصدفة في حياته وحياة عائلته، الصدفة التي جعلت والدته تعرف النجاح الجماهيري فجأة، فتغير قرارها بالبعد عن أوساط الفن وعيش حياة أسرية تقليدية، لكن ما رأته بعدها من مصاعب وأزمات جعلها تصر على رفض اشتغال زكي بالفن والإلحاح على أهمية أن يبحث عن وظيفة منتظمة مهما كان صغرها، ليضطر إلى خداعها ويقول لها إنه بدأ العمل في فندق، وتكتشف بعد سنة كاملة أنه بدأ دراسة السينما والعمل فيها.

كان أبوه فطين عبد الوهاب وعمه سراج منير قد عانيا من رفض أبيهما رجل التعليم الموقر لفكرة العمل في الفن، سافر سراج لدراسة الطب خارج مصر لكنه درس التمثيل وحين اكتشف الأب ذلك طرده من البيت، وبعد أن قرر شقيقه ضابط الجيش فطين العمل في الفن طرده الأب أيضاً وظل يقاطع ولديه حتى مات، وهو ما استعاده زكي حين زادت خلافاته مع والدته بسبب إصراره على دراسة السينما ورغبتها المستمرة والمزعجة في حمايته من كل شيء.

قرر زكي التمرد والسفر إلى أمريكا وهو في العشرين من عمره مصمماً على ألا يعود إلى مصر، لتتهمه ليلى مراد بأنه لم يعد يحبها وأنه يستسهل القسوة عليها وأنه كان متعباً لها منذ لحظة ولادته القيصرية، وتظل تلك العبارات الحزينة الغاضبة التي كانت تقولها له في مكالماتهما الهاتفية، تطارده حتى آخر يوم في عمره وهو يسائل نفسه عن جدوى ما كسبه حين حاول التمرد على فيض حنانها.

حين قرر زكي الطالب في معهد السينما أن يتزوج نجمة نجمات مصر سعاد حسني التي وقعت في غرامه، شعرت ليلى أنه يواصل التمرد عليها، لكنها لم تعارض الزيجة بشكل عنيف، لأنها كانت تحب سعاد كفنانة وإنسانة، ولأنها أيضاً كانت تتوقع سرعة نهاية التجربة بعد أن تذهب سكرة الغرام، وحين كانت تجمع الأسطورتين جلسات طويلة للحديث عن الأفلام والأغاني والنميمة، كان زكي اللاسع يفضل تركهما لكي يتسكع في شوارع وسط البلد مع أصدقائه، باحثاً عن حكايات تصلح لفيلمه الروائي الأول الذي ظل يطارده سنوات طويلة، وحين أمسك به لم يكتمل.

في فيلمه المُبتسر، أشار زكي إلى حلم آخر لم يكتمل، هو حلم الأبوة الذي ظل يلوم نفسه طيلة عمره لأنه لم يأخذه بجدية بعد أن عرف أن زوجته الأمريكية حامل، فهجرته وسافرت، وحاول متأخراً أن يستعيدها ففشل وانقطعت أخبارها وأخبار طفلهما عنه، ولم يعرف إلا بعد رحيل أمه أنها كانت تخفي عنه الخطابات التي ترسلها أم طفله الذي ظل يحاول استعادته دون جدوى، ليضاف ذلك الفشل إلى قائمة عذاباته الطويلة التي أخفق جسده وروحه في تحملها.

حين جعلت الصدفة من زكي ممثلاً ناجحاً بعد طول تعثر، استسلم لها، وقرر أن يؤجل إلى أجل غير مسمى أحلام الإخراج والكتابة التي تحولت إلى كوابيس، حين اكتشف أنه أضعف من مواجهة تعقيدات الواقع مثلما كان يفعل أبوه الصلب المدهش في قدرته على الاستمرار والتجدد، والذي شعر زكي أنه أضاع وقتاً طويلاً في محاولة الهروب من شبحه، ومحاولة فهم القناع القاسي الذي كان الأب يختفي وراءه طول الوقت.

بعد أن اشتدت وطأة المرض على زكي، استعاد علاقته القديمة بالكوميديا التي بدأت ملتبسة منذ طفولته، حين كان أبوه يعرض لهم في البيت كل خميس الأفلام التي أخرجها لإسماعيل ياسين، وحين تمرد زكي الطفل قائلاً بلدغته: "هو كل يوم اثماعيل ياثين يعني؟"، حبسه الأب غاضباً في غرفته، فتعلم أن يحتفظ برأيه لنفسه، وحين كانت أمه تشكو من فرط جدية أبيه قائلة: "مش عارفة أبوك ده بيشتغل كوميديا إزاي؟".. فهم مبكراً أن صناعة الضحك لا تعني أن يكون المرء مبتهجاً ومبهجاً، ثم أدرك متأخراً أن ما كان يصنعه أبوه مع رفاقه من أجمل كوميديانات مصر يمكن أن يغير طعم حياته ويعطيها معنى جديداً، ومع أنه حاول أن يجد من يشاركه في تحقيق ذلك المعنى، إلا أنه وكالعادة لم يجد من يأخذ حلمه بجدية.

بعد عقود من العزلة ورفض تطفل الغرباء على حياته، أجبرت الظروف زكي على أن يكون ذلك الماضي سبيلاً لكسب الرزق ومواجهة أعباء المرض، لكن نفسه النفور كانت قد رقّت وصفت، فلم يعد يشعر بالضيق من الحديث عن أدق أسرار حياته، كأنه قرر أن يجعل جلسات الفضفضة مع المعالج النفسي علنية، ليشارك الجميع في تخففه من أعباء ماضيه الذي لم يكن الجميع يتصورون أنه قاس وثقيل إلى تلك الدرجة، ولعله يقنع أكبر عدد من مشاهديه بأهمية التصالح مع ماضيهم وقبول أخطائهم سعياً للتعافي، بدلاً من التعافي على أنفسهم وخداعها بالإنكار والتجاهل، ليكون ذلك الدور الختامي أنجح وأجمل الأدوار التي لعبها في حياته.

ألف رحمة ونور عليه.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com