"الجمهورية الخرساء"
"الجمهورية الخرساء""الجمهورية الخرساء"

"الجمهورية الخرساء"

"الجمهورية الخرساء"، هو عنوان حوار مطول أجراه الكاتب الصحفي دونيس جامبار، رئيس مجموعة إكسبريس الصحافية لجون بايريلاند، رجل اليسار الفرنسي المعروف الذي تولى رئاسة بنك "الكريدي ليونيه " أكثر من ثلاثين عاما..

وقد صدر هذا الحوار على شكل كتاب سنة 2002 أيام الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي شهدت صعودا مخيفا لليمين المتطرف عندما فرض جون ماري لوبان، رئيس الجبهة الوطنية آنذاك نفسه كحقيقة سياسية ورقما فاعلا في الرئاسيات بصورة جعلت جميع المخاوف تنفجر مرة واحدة في فرنسا.

وأهم ما جاء في ذلك الحوار دعوة بايريلاند الطبقة السياسية، وبالذات المنتمية لليسار، إلى التخلي عن دوغمائياتها الإيديولوجية والتعامل مع العولمة كواقع محتوم، وبالتالي مع اقتصاد السوق، بشكل ينقذ فرنسا من الانهيار اقتصاديا وحضاريا، مُنددا بغياب النخب الفكرية عن فضاءات الخوض في القضايا المصيرية التي تهم البلاد، شأنهم في ذلك شأن المواطنين العاديين الذين تنازلوا عن دورهم في المشاركة في اتخاذ القرار، ولم يعد لهم من حق غير الحق في الصمت.

سنة 2002 كانت نسبة الامتناع عن التصويت أرفع نسبة عرفتها فرنسا منذ أن اعتمد نظام الاقتراع المباشر عام 1965 لاختيار رئيسها.

ويوم 10 أبريل 2022، تاريخ الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، كانت نسبة الممتنعين عن التصويت عموما أكثر من 26 بالمائة، و28 بالمائة في أوساط الشباب، وهو ما جعل العديد من المراقبين للشأن الفرنسي يتساءلون إن كان المواطنون الفرنسيون سيقبلون على الذهاب لصناديق الاقتراع في الجولة الثانية، كما جعلتهم يبحثون عن الأسباب التي أدت إلى هذا العزوف عن أداء حق طالما اعتبر الأكثر تعبيرا عن الممارسة الديمقراطية.

ربما اختلفت انتخابات عام 2002 الرئاسية عن انتخابات هذه السنة في سياقاتها الوطنية والدولية، ولكنهما تتشابهان على الأقل في ظاهرة التراجع الكبير للأحزاب التقليدية، وفي أن قسمة اليمين / اليسار التي انبنت عليها الحياة السياسية الفرنسية منذ أكثر من قرن وانتظم حولها الصراع بين تلك الأحزاب لم تعد صالحة، أكثر من أي وقت مضى، لقراءة تشكل الفضاء السياسي الجديد..

هذا الفضاء شهد هذه السنة بروز ثلاثة أقطاب رئيسية تعود في الواقع إلى الانقسامات الحاصلة داخل الأحزاب التقليدية وذهاب هذه الانقسامات، في العديد منها، إلى ما يمكن أن نسميه بالأقاصي يمينا يسارا..

وغير خاف أثر هذه الانقسامات، ليس فقط على تشتت أصوات الناخبين، ولكن أيضا على تدني نسبة المشاركة في التصويت؛ بسبب اختلاط المراجع الأيديولوجية لهذه الأحزاب وتداخل الحدود بينها، مما يشكل على الناخب الفرز بين أكثرها تعبيرا عن مشاغله ودفاعا عن مصالحه، وهو الأمر الذي يقوده، أحيانا، إلى التخلي عن الاستماع إلى مرشحيها والزهد فيها تماما.

وإذا ما أضفنا إلى حيرة الناخب الفرنسي أمام تشتت هذه الأحزاب يمينا ويسارا، وتفتت جزء هام من قاعدتها الانتخابية، تشابهَ برامجها وضبابية بعضها مما يُغلق أمام الناخبين آفاق بدائل جديدة غير تلك التي يتطلعون إليها..

ولعله من اللافت أنه خلال المناظرة التي جرت بين المرشحيْن مارين لوبان وإيمانويل ماكرون، قبل يومين فقط من موعد الجولة الثانية، فإن لوبان تراجعت عن دعوتها للخروج من الاتحاد الأوروبي حفاظا على السيادة الوطنية لفرنسا، حين واجهها ماكرون بعدم إمكانية عزل فرنسا عن حاضنتها الأوروبية وعن محيطها الدولي، فيما احتاج ماكرون إلى تقديم العديد من التوضيحات وربما التعديلات أيضا على إحدى نقاط برنامجه الانتخابي البارزة والمتمثلة في رفع سن المعاش إلى الخامسة والستين..

كما بدت لوبان، وهي سليلة حزب يميني متطرف، أقرب إلى برامج أحزاب اليسار، وهي تؤكد على إعادة الاعتبار لدور الدولة الراعية للفئات الهشة وعلى ضرورة دعم القدرة الشرائية للفرنسيين التي تراجعت بسبب جائحة كوفيد والحرب في أوكرانيا، فيما بدا ماكرون، وقد كان وزيرا للاقتصاد في حكومة هولاند الاشتراكي، ليبراليا في العديد من نقاط برنامجه الاقتصادي.

ومن الطريف أيضا أنه صبيحة هذه المناظرة أجرت قناة "بي إف إم" التلفزيونية الفرنسية حوارات مع مواطنين فرنسيين، أجمع العديد منهم على أنهم لن يذهبوا للتصويت في الدور الثاني؛ لأنهم لم يلاحظوا جديدا في البرنامجين الانتخابيين للوبان وماكرون، وأنهم غير معنيين بما يطرحانه من برامج وما يقدمانه من وعود..

وهذا يعني أن العرض السياسي الذي قدمه كل من المرشحيْن لم يكن قادرا على شد الناخبين وتحفيزهم على الإقبال على صناديق الاقتراع، وهو ما حاول استدراكه ماكرون ولوبان من خلال التوجه من الغد إلى الخزان الانتخابي لجون لوك ميلنشون لاستمالته كل من جهته.

فهل يعني هذا العزوف عن التصويت تراجعا للاهتمام بالشأن السياسي لدى شرائح واسعة من المجتمع الفرنسي وبالذات لدى شريحة الشباب؟

تنفي آن موكسيل، رئيسة قسم علم الاجتماع والعلوم السياسية في المركز الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية بفرنسا، أن يكون المواطنون الفرنسيون، عموما، والشباب منهم خصوصا، لا مبالين بالشأن السياسي في بلادهم، وإن كانت لا تنفي أن نسبة ارتفاع امتناعهم عن التصويت نسبة لافتة في الانتخابات الرئاسية التي تحشد، عادة، المزيد من المواطنين أكثر من غيرها من المواعيد الانتخابية الأخرى، مثل الانتخابات البلدية أو الإقليمية والتشريعية والأوروبية..

إلا أنها توضح أن الشباب أصبح يجسد اهتمامه بالشأن العام، من خلال العمل في إطار منظمات المجتمع المدني، كما أنه يعبر عن آرائه عبر شبكات التواصل الاجتماعي ومن خلال المظاهرات والحركات الاحتجاجية كما كان الشأن بالنسبة لحركة "السترات الصفراء" وإغلاق المعاهد الثانوية وغيرها.

وتعزو آن موكسيل، من جهة أخرى، انخفاض نسبة مشاركة الشباب في حدث كثيرا ما يتطلعون إلى تسجيل حضورهم فيه، إلى ما تسميه بـ"الانفصال المدني" المتمثل في الفجوة بين المبدأ والممارسة، حيث إن الشباب يتمسكون بحق الاقتراع، إلا أن ممارسة هذا الحق تأتي تدريجيا، وأحيانا متأخرة؛ بسبب انشغال الشبان ربما إلى سن الثلاثين أو أكثر بالاستقرار المهني وحتى السكني كما ببناء الهوية والتجريب والتحرر من إرث التنشئة الاجتماعية ومما انتقل إليهم من الأفكار والمواقف السياسية وبناء مواقف خاصة بهم ونابعة من قناعاتهم التي يبنونها عبر تجاربهم التي تؤهلهم للخروج من وضعية الهشاشة وعدم الاستقرار.

وتردد مارين لوبان، التي تجهد في نزع ثوب اليمينية المتطرفة عنها وفي عدم شيطنتها في أول اجتماع لها بعد المناظرة مع ماكرون، "إذا ما صوت الشعب، فإن الشعب سيفوز".

وتقول معاهد سبر الآراء أن السبعة ملايين ناخب الذين صوتوا لمرشح "فرنسا الأبية"، اليساري "المتطرف" جون لوك ميليشون، يمتلكون مفاتيح الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، فيما يرفع حوالي 13 مليونا من المسجلين في الانتخابات ولكنهم تراجعوا عن التصويت في الجولة الأولى، صوت "الجمهورية الخرساء" الغاضب، في وجوه كل أطياف الطبقة السياسية الفرنسية الحالية ويعلنون عدم الرضا عنها.

فهل حزب "الممتنعين عن التصويت" أقوى الأحزاب الفرنسية اليوم؟ ولفائدة مَن ستكون أصوات "الجمهورية الخرساء"؟

الأحد، تأتينا الإجابة البليغة.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com