المحروق (4 من 4)
المحروق (4 من 4)المحروق (4 من 4)

المحروق (4 من 4)

ساعدني المرهم والمسكّن اللذان كتبهما الدكتور الحريري على تخفيف آلامي المبرحة، لكنهما لم ينجحا بتخفيف إحساسي بالمهانة مما تعرضت له خلال رحلة العودة إلى البيت من مسخرة متنوعة الأشكال، وهو ما توقعت أن أجد مثله أضعافًا مضاعفة خلال رحلة عودتي إلى القاهرة.

يعني، إذا كنت سأراهن على دماثة وتحضّر الراكبين معي في عربة الدرجة الثانية في القطار العائد إلى القاهرة، الذين سيكتفون بالحوقلة والبسملة وهم يرمقون صدري المحروق المفتوح على مصراعيه، فمن سيضمن لي النجاة من بطش ألسنة القاهريين المتشوقين لفشّ غلهم وعدوانيتهم في كل من هبّ ودبّ؟ ومن سيقنع زملائي في الصحيفة بكتم سيل الإفيهات ليتقبلوا العمل في صمت مع زميل عاري الصدر ومحروقه؟ ومن يوقف في رأسي طواحين استعادة ما مضى، والخوف مما سيأتي، لأتمكن من النوم في سلام؟

كنت حسن الحظ لأن خالتي الصغرى، وهي الممرضة ذات الخبرة الطبية الواسعة، قررت أن تزورني للاطمئنان عليّ قبل سفري، وما إن رأت حالتي الكَرْب، حتى أطلقت وابلًا من اللعنات والدعوات على الدكتور الضلالي ابن الدايخة الذي لم يستمر دفاع خالتي الكبرى عنه، بعد أن فهمنا كيف قام بتحويل الحرق إلى جرح بدفعه الممرضة ذات الصدر الأعظم لنزع الجلد المحترق، وهو ما كان سيفجّر "تسونامي" من الآلام حين يخفُت تأثير المرهم والمسكّن، لتلومنا خالتي الواعية على جهلنا المطبق بمبادئ الإسعافات الأولية، لأننا لم نبادر إلى فتح ماء الحنفيّة البارد على موضع الحرق نصف ساعة أو يزيد، وهو ما كان سيفرق كثيرًا مع تداعيات الحرق وآلامه.

اتضح أن علاج حالتي الناجع كان أسهل بكثير مما اقترفت أيادي جلادي التأمين الصحي: بعضٌ من محلول الملح، ومرهم محلي الصنع يحمل اسمًا لطيف الوقع على الأذن "سفراتول"، وكثير من الشاش والقطن اللازمين لمنع تلوث الجرح، يتم التغيير بهما على موضع الجريمة مرة كل يوم، صحيح أن مدة العلاج ستطول 21 يومًا على الأقل، لكن ألم نزع البلاستر الملتصق بشعر الصدر عند الغيار اليومي، كان بالتأكيد أخف مرارةً على النفس من وقع ألسنة أصدقائي السليطة المسلّطة طول اليوم على صدري العاري.

بعد أن قمت بأول عملية غيار أدركت أن كتمان ما جرى عن كل من أعرفهم من زملاء وأصدقاء، لن يكون سهلًا لأن آثار القطن، والشاش، والبلاستر، امتدت حتى مشارف رقبتي، ولم يكن من العملي استمرار تغطية رقبتي بشال خانق، أو ارتداء بلوڨر برقبة عالية تشبه ڨازة تخرج منها الرأس مفرهَدَة من العَرَق، وبدلًا من أن أجتهد في تأليف كذبة تسترني طبقيًا، قررت أن أصارح الجميع بحقيقة ما جرى، متحديًا وفخورًا بعائلتي العريقة التي ترفض الانحناء لقيم الحداثة، وتصر على التشبث بتقاليد الماضي التليدة، مستبقًا انحراف التعليقات الساخرة التي ستزعم عابثة أن حدود الحرق تجاوزت منطقة الصدر، بالتأكيد العدائي على أنه لم يتم تضرر أي ممتلكات ثمينة في الحادث الأليم.

حين ذهبت بعد عودتي إلى القاهرة لإجراء حوار صحفي مع الفنان الكبير عادل إمام في ستديو مصر خلال تصويره لفيلم ()، كان لا بد أن أشرح له ما جرى بملامح تبالغ في الشكوى من آلام الحريق، لعله يخفف غلواء سخريته المنتظرة، وكان الزعيم عند حسن ظني به وفخري بصداقته، فأبدى تعاطفه البالغ معي، وأخذ يستعيد ذكرياته الساخرة مع وابور الجاز في بيت أسرته في الحلمية والذي صحب الأسرة مع باقي ممتلكاتها حين انتقلَتْ إلى الجيزة ليبقى في البيت إلى أن خرج عادل منه، وشق طريقه في الحياة.

نصحني الأستاذ عادل بأن أكتب عن التجربة في مقالي الأسبوعي بصحيفة (الدستور) لكي أذكر الأجيال التي من سني، وما تلاه بذلك التقليد المصري الصميم والذي أوشك على الاندثار في أغلب المدن المصرية، ومن يدري؟ لعل كتابتي تفجر موضة العودة للاستحمام بالوابور والكوز، ليس فقط وسط البسطاء الذين يشكون من ارتفاع فواتير الكهرباء، وندرة أنابيب البوتاجاز، بل لدى الأغنياء المهووسين بكل ما هو غريب و"أوريچينال"، بدليل أنهم، على حد تعبيره، بدأوا في تلك الأيام هجران الدقيق الفاخر، وأخذوا يزاحمون الفقراء في العيش أبو ردّة والذي أصبحوا يدلّعونه بـ "العيش السِنّ".

اتضح أن صبر عادل إمام على السخرية من حرقي كان مؤقتًا لأنه كان ينتظر وصول شريكته في بطولة الفيلم الفنانة يسرا التي كنت أراها لأول مرة في ذلك اليوم، وبعد أن رمت السلام الودود اللطيف على الجميع، عرّفها عليّ الأستاذ عادل مفخّمًا من شأني، وحين وقعت نظراتها المستغربة على البلاستر الذي كاد أن يغطي زوري، قال لها بجدية إنني تعرضت للحرق في مباحث أمن الدولة بسبب مقال سياسي كتبته، وحين نظرت إليّ مرتبكة ومستغربة، مال عليّ وقال وهو يكتم ضحكته الرائقة: "نمشّيها أمن الدولة ولا تقول الحقيقة أحسن؟".

قلت الحقيقة طبعًا لنجمتي المفضلة، لكيلا أبشّر على نفسي، وكانت الحقيقة صادمة لها، فأخذت وقتًا لكي تتأكد من أننا لا نمارس اشتغالة اتفقتُ عليها مع عادل المستمتع بدهشتها وصدمتها، ولأنها شخصية إيجابية وشديدة التعاطف مع الآخرين، فقد كتمت أسئلة كثيرة كان يمكن أن تسبب لي الحرج، وأخذت تشدد على أهمية أن أقوم بفضح الدكتور الأفّاق لكي تتم محاسبته، وحماية محروقين آخرين من شره، فوعدتها بذلك..

لكني بالطبع لم أفعل، حفاظًا على زمالة خالتي له، وحين علمتُ أنه هاجر وعاد إلى أمريكا بعد فترة وجيزة تيقنت من أن تشخيصه وعلاجه الخاطئين كانا ينبعان من رغبة انتقامية وليس من معرفة خاطئة.

بالطبع لم يكن غريبًا ألا ينسى عادل إمام صاحب العلاقة الوطيدة القديمة بوابور الجاز ذكرى ذلك الحرق، فيذكرني به من حين لآخر.

الغريب أن يسرا التي رأيتها بعد عامين حين ذهبت لإجراء حوار معها، قالت لي بابتسامة عريضة: "فاكر إيه إللي حصل أول مرة شفتك فيها؟"، ليرتبط ذلك الحرق اللعين بذكرى لقائها لأول مرة، فتخف وطأة ذكراه كلما حلّت، وتجلب ابتسامة عريضة وتنهيدة حنين إلى أيام لمّة العيلة التي فرّقها الموت والسفر وتلاهي الحياة، ودعوات بالرحمة والغفران لستّي نرجس التي لم يُخلق مثلها في البلاد.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com