سهرة مع "غوغل"
سهرة مع "غوغل"سهرة مع "غوغل"

سهرة مع "غوغل"

من أكثر الأشياء تسلية، الجلوس على انفراد مع "غوغل"، ووضع كل رأي أو مقال جديد لاسم شهير يملأ الشاشات والفضاء الرقمي، في ميزان ذاكرة محرك البحث التي لا تعرف الرحمة.

البحث هنا لا علاقة له برصد سرقاته من نفسه، وإعادة تدوير أفكاره القديمة، بل تأمل حاله ومواقفه من "القضايا المبدئية" التي نذر عمره لأجلها وأقسم على صوابيتها وانتصارها الحتمي، على طريقة "عليّ الطلاق بالثلاثة".

لا يحتاج الأمر إلى الابتعاد في الزمن، فالعشرية الأخيرة تكفي لتبيان واقع نخب فكرية عربية، وقامات إعلامية لها شهرة نجوم السينما، وتمتلك من المريدين ما يضمن لها التصفيق الدائم وهي تتقافز على كل الحبال.

اشتباك المصطلحات لم يتوقف منذ وفاة الشاب التونسي محمد البوعزيزي، كما لم يتوقف الانقلاب على المصطلح ثم الانقلاب على الانقلاب، وعند الإعلان عن الرأي المستجد، صوتا أو كلمة، يتم إلباس المقدمات، في كل مرة، ثوب المنطق الوقور وصولا إلى اليقين.

يقسم بشرفه وبدماء الشهداء أنها ثورة، وقد أتت في أوانها لتصحيح التاريخ، وأنها لم تفاجئه على الإطلاق؛ لأن إرهاصاتها كانت واضحة لمن يحسن القراءة ما بين السطور، والتقاط نبض الشعوب وتوقها إلى الحرية.. يمجد الزمن العربي الجديد ويعلي "الربيع" فوق كل الفصول.

بعد أعوام قليلة، تهب رياح أخرى على سياسة النشر، فيعود الاسم ذاته وبالثقة السابقة نفسها، ليقسم بشرفه وبدماء "المغرر بهم" أنها كانت مؤامرة تستهدف الماضي والحاضر والمستقبل، وأن "الربيع العربي" كان حصان طروادة لتدمير الأمة، ونسف الاستقرار والتعايش بين الطوائف والأديان، وأنه استشعر هذا الخطر منذ البداية، ولم تنطل عليه أكاذيب الثورات وشعارات الكرامة الزائفة.

كاتب عربي" معروف"، يستطيع - بسهولة يحسد عليها - نشر أكثر من مقال في يوم واحد، وفي منابر متباينة الهوى، مفصلا مواقفه على مقاسات النهار: في مقتبل الصباح يستحثه الطيش فيحمل عدة الحرب هاجيًا، متوعدًا كل من يصالح ويهرول ويطبع مع إسرائيل، مادحًا كل مقاومة مسلحة تحت شعار فلسطين من البحر إلى النهر.

وفي قيلولة بعد غداء دسم، يتملكه التعقل والنضج فيتحول إلى داعية للسلام، والحلول السياسية التي تخدم القضية أكثر بما لا يقاس من صوت الرصاص، ليصل إلى قناعة راسخة بأن هذه الأرض تتسع لنا جميعا.

صحافي مخضرم، لم يعد يكلف نفسه عناء المقالات المطولة وضجر التحليل، فآثر ملعب "تويتر" ليفاجئنا كل ساعة بموقف ثم ينسفه بتغريدة واحدة، مراهنًا على حيلة مكشوفة بوضع علامة الاستفهام في نهاية كل مأثور جديد.

ما يُقال في الأحداث والقضايا الكبرى، ينسحب على كل شيء: التنمية والصناعة الثقيلة، الخصخصة ورفع الدعم، تطوير الخطاب الديني والمناهج الدراسية، تحرر المرأة والعنف المنزلي، أزمة المناخ والوقود الأحفوري..

وعندما تتورط وتحاجج أحدا بوثائق "غوغل"، تحمر عيناه ويتهمك بالتصيد الرخيص والاجتزاء وعدم فهم السياق.

حقا، من أكثر الأشياء مللا وخطرا، الجلوس على انفراد مع "غوغل" باعتباره أقصر الطرق إلى الجنون.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com