المحروق (3 من 4)
المحروق (3 من 4)المحروق (3 من 4)

المحروق (3 من 4)

بعد أن اكتفيت بالصراخ الجاف والعويل الحاد طيلة اللحظات الطويلة الثقيلة التي أعقبت احتراقي بالماء المغلي، لم أستطع منع نفسي من البكاء المرير الذي بلغ النهنهة، والغريب أن ذلك حدث فقط حين أزكمت أنفي رائحة البيض النيئ المختلط بالحليب، والذي تزحلق في أرجاء نصفي الأعلى وتزحلقت معه كرامتي إلى أسفل سافلين.

صَعُب حالي على خالتي التي شعَرَت بمسئوليتها عن تأجيج آلامي باقتراح دهن الحرق بمعجون الأسنان، فسارعَت للاتصال بطبيب يناوب في عيادة التأمين الصحي التي تعمل بها والتي تقع قرب استاد الإسكندرية القريب من بيتنا، ولكي ترفع من روحي المعنوية وتخفض من صوت نشيجي المزعج، بشّرتني أن الطبيب الذي اتفقت معه على استقبالي فوراً، عائد قبل أشهر من دراسة الماجستير في أمريكا "وإيديه تتلفّ في حرير".

في ظروف مختلفة، كنت سأتساءل عما يدفع طبيباً حريري اليد للعمل في تلك العيادة البائسة، لكنني تعلقت بقشّة خالتي وتحملت آلامي، وسارعت لمحاولة ارتداء ملابسي للذهاب إلى العيادة، متحملاً بجَلَد الفرسان عذاب احتكاك نسيجها بالجلد المحترق كلما تحركتُ ونزلتُ درجة من درجات السلم الذي بدا أطول بكثير من كل مرة، هو والطريق إلى العيادة، الذي جعلني الألم أعُدّ كل مطبّاته التي لم يترك التاكسي اللعين واحداً منها إلا وأخذه على أكمل وجه، ربما تحت تأثير خالي الذي كان يحُضّ سائقه ليدوس أكثر على البنزين للإسراع بإنقاذي، ولم يفهم السائق لماذا شَخَطَ فيه الجميع حين سأل ببراءة عما إذا كنا أيضاً نشم رائحة بيض داخل التاكسي.

اتضح أن خالتي تملك دلالاً على زملائها الذين أعفونا من طول الانتظار، وسارعوا بإدخالي إلى الدكتور حريري اليدّ الذي كشفت له صدري واتجهت إلى السماء داعياً بتعجيل الشفاء، وأزعجني أن وجهه خلا من كل أمارات التعاطف، ونظر إلى موضع الحرق بقرف، وقال وهو في غاية الاشمئزاز "ده حريق من الدرجة التانية"، ولأنني كنت أسمع المصطلح لأول مرة لم أفهم هل كان ذلك يعيب حرقي أم يشرّفه، وهل كانت حالتي ستكون أخطر أم أهون لو كان حرقي درجة أولى أو درجة ثالثة؟

زاد اشمئزاز الطبيب الأليط مني حين طلبت توضيح ما يقصده بموضوع الدرجة الثانية، فاضطر خالي أن يحسّن موقفي أمامه، ويقول له إنني صحفي ذائع الصيت، فجاءت محاولته بعكس نتيجتها حين قال الطبيب بقرف أشد: "إزاي تبقى صحفي وتعمل كده في نفسك؟"، ولو لم أكن أقف أمامه مفتوح الصدر ومحروقه، لأعطيته كلمتين فيهما النصيب، أو حتى شرحت له أنني مجرد ضحية لتمسك أسرتي المبالغ فيه بكل ما له علاقة برائحة ستّي رحمها الله، لكن حالي طلب مني أن أنظر إليه وأكون واقعياً وأتحلى بالصمت المطبق، ليشير الطبيب بطراطيف أصابعه إلى اتجاه لم أتبينه وهو يقول بلهجة الأمر: "شيلي له الجلد المحروق بالجفت".

حين نظرت إلى المطرح الذي اتجهت نحوه كلماته المتعالية، لعلي أرى كُنه الجِفت الذي سيُزال جلدي المحروق به، رأيت ممرضة عريضة المنكبين والأصداغ والحواجب والأيدي والأقدام، تمسك جسماً معدنياً كالمقص وما هو بمقص، وبدا لي فيما يرى المحروق أن لُعاب المشتاق للأذى يسيل من شفتيها وهي تنظر نحو موضع الحرق، ودون أن تقوم بتمهيدي نفسياً وعقلياً لما ستفعله، أو تسألني إذا ما كنت أرغب في أخذ مسكّن للآلام أو مخدر موضعي أو كُلّي، انهالت بجِفتها على موضع الحرق وبدأت تكحت فيه، ليرعبني ارتعاش عينيها من فرط النشوة بما تفعله، فأعُضّ على لساني وأمنع حنجرتي من الصراخ لكيلا تدِبّ الجِفت في عينيّ.

لم يأخذ الجلد المحترق في يدها غَلوة، وبعد أن ابتعدت مسرعة بما نزعته حتى ظننت أنها ستأكله، رفعتُ عقيرتي بالصراخ والنواح والاستغاثة، ومنعتني البقع المريبة التي تلطخ ملاءة السرير من اللجوء إلى عضّه تخفيفاً لألمي، وحين رجا خالي الطبيب عديم الإحساس أن يشوف لألمي حلاً كرامة لله والنبي وخالتي، مد يده نحو مكتبه بتثاقل، وتناول شريطاً من علبة دواء، وطلب مني أن أبلع منه قرصين كل ست ساعات، محذراً من تناول الشريط بأكمله إذا كنت سأرغب في الانتحار، لأن الانتحار يتطلب بلع ثلاثة شرائط على الأقل.

ثم مد يده إلى الروشتة وكتب اسم مرهم قال إنه سيفيد في تطييب الآلام، مؤكداً بكل شفافية أن التشوه الذي أنتجه الحرق في صدري لن يداويه إلا الزمن، ناصحاً بضرورة تعريض مكان الحرق للهواء وإبعاده عن الاحتكاك بأي نسيج ملابس من أي نوع لأن ذلك قد يحدث التهاباً أو تلوثاً غير محمود العواقب، ثم طلب منا إبلاغ السلام لخالتي والإسراع بالخروج من الغرفة لكي يشوف شوفة غيرنا.

في الطريق الطويل المرير إلى الصيدلية ومنها إلى البيت الذي بدا أبعد من ذي قبل، تحولتُ إلى عِظة وعبرة بصدري الذي فتحتُ أزرار قميصه للشمس والهواء والشوارع بكل من فيها من مبحلقين وساخرين وهمّازين لمّازين مشّائين بنميم، ولم يكن ينقص مولد الفرجة الذي تم نصبه لي وحولي، إلا أن تستوقفني الأمهات الراغبات في تربية أبنائهن ليشرن إلى صدري الذي تتجاور فيه بقع لونية بعضها أرجواني وبعضها أقحواني وبعضها أفعواني، ليصبح شبيهاً بالشوارع التي نسير عليها في امتلائها بالمطبات والحفر، قائلات لأبنائهن: "لو ما سمعتش الكلام بعد كده ربنا هيسخطك زي الراجل أبو صدر مسلوخ ده"، ولو كان ثمن تلك المهانة التعجيل بشفائي لرضيت واحتسبت، لكن ما أسفرت عنه تلك المهانة كان أبعد ما يكون عن الشفاء العاجل أو الآجل.
....
نختم الأسبوع القادم بإذن الله.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com