المهمة الصعبة لشباب القلعة المتصدعة
المهمة الصعبة لشباب القلعة المتصدعةالمهمة الصعبة لشباب القلعة المتصدعة

المهمة الصعبة لشباب القلعة المتصدعة

خيرة الشيباني

لم يفلح الشيخ الثمانيني، الذي ترك في شبابه الباكر دراسة الزراعة ليؤلّف في الدين أكثر مما ألّف في الفلسفة التي واظب على دروسها، في تجنيب قلعته الستالينية ضربات داخلية وخارجية لم تقتصر على استهداف هذه القلعة قوية الأركان فقط، وإنما تسببت في هز عرشه هزاً، عرش بدا للكثيرين مؤبداً أو شبه مؤبد، بعد حوالي أربعين سنة من الزعامة الفردية المطلقة.

وخلافاً للعديد من المراقبين والمحللين، فإننا نعتقد أن راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة ورئيس مجلس النواب إلى تاريخ 25 جويلية/يوليو الماضي، وهو التاريخ الذي سيظل محفوراً في ذاكرته وذاكرة النهضويين، قد تفاجأ بإعصار تجريده بمقتضى المرسوم عدد 80 الشهير من كل صلاحياته النيابية، وإغلاق باب مقر مجلس النواب في وجهه، بعد أن زين له الانغماس في السلطة إنكار توقع حدوثه في يوم من الأيام.

فالتراجع الكبير في نسبة المصوتين لحركة النهضة في الانتخابات التشريعية والرئاسية مثّل صفعة كبرى للحركة التي عملت منذ توليها السلطة عام 2011 على الانتشار والتمكن بكل مفاصل الدولة، والحرص على الاستئثار بأكبر قدر من المغانم لقيادييها وأنصارها، كما أن الحركة لم تكن على جهل بمدى الغضب الشعبي الذي تختزنه صدور التونسيين وهم يكابدون تردّي مستوى عيشهم وتدهور أوضاعهم البيئية وانهيار منظوماتهم الصحية والتعليمية وتضاعف نِسب بطالة شبابهم، وذلك خلافاً للوعود العرقوبية للطبقة السياسية التي حكمتهم وعلى رأسها حركة النهضة.

ولم يكن أيضاً تضاؤل جسمها الانتخابي وتقلص رقعة جماهيريتها مؤشراً وحيداً على بداية اهتزاز هذا الحزب، الذي كان يُنظر إليه بأنه الأكثر تنظيماً والأشد صرامة في انضباط قيادييه وأنصاره، ذلك أن نزيف الاستقالات الذي عرفته الحركة، خاصة منذ 2019 من طرف العديد من قياداتها التاريخية والشابة، كان دليلاً ساطعاً على أن السوس بدأ ينخر هذا الكيان الحزبي الواثق حد الغرور من تموقعه السياسي المتين في المشهد التونسي، ومن تمدده داخل مفاصل الدولة، ومن الدعم الخارجي السخي الذي كان يحظى به إقليمياً ودولياً.

وثمة ما يشبه الاتفاق عند جل المستقيلين من المواقع البارزة التي كانوا يحتلونها في الحركة على أن من أبرز الأسباب التي اضطرتهم إلى الاستقالة ما دأب عليه الغنوشي من تفرد بالرأي واستبداد في اتخاذ القرار، قاداه إلى خيارات سياسية خاطئة للحركة كانت سبباً في الانسداد السياسي الذي تعيشه البلاد، وفي إخلالها بوعودها الانتخابية وإنجازها لاستحقاقات الثورة "خبز، حرية، كرامة وطنية " التي تبنوها، إذ لم يعش التونسيون أوضاعاً أمنية واقتصادية واجتماعية أسوأَ مما عاشوها منذ أن مسكت النهضة بزمام السلطة.

وقد كان زياد العذاري الأمين العام السابق للحركة وأحد أبناء الغنوشي المدلّلين واضحا وهو يعدّد الأسباب التي سوّغ بها استقالته أواخر نوفمبر 2019 حين تحدث في تدوينة له عن المسار الخاطئ الذي تتبعه الحركة، وعن قراراتها الخطيرة التي دفعت بالبلاد في طريق محفوفة بالمخاطر، محمّلاً إياها ما قد ينجر عن مثل هكذا سياسة من تداعيات.

وقد أيدت الرسالة الغاضبة التي وجهها 130 قيادياً نهضوياً يوم 16 سبتمبر 2020 إلى قيادة الحركة، "وطالبوا فيها عدم ترشح راشد الغنوشي لعهدة ثانية خلال مؤتمر الحركة القادم، ما كان يروج عن حالة تململ تعيشها الحركة بسبب النهج التسلطي الذي يدير فيه السيد الغنوشي شؤون حزبه، وتبعات ذلك على الحياة السياسية في تونس..

وكان من بين الموقعين عماد الحمامي وسمير ديلو وعبد اللطيف المكي، وهم من أبرز القيادات المخضرمة ممن قدموا استقالتهم رفضاً لما اتسمت به طريقة تعامل الغنوشي مع ما بعد 25 جويلية /يوليو من تخبُطٍ وعجزٍ عن احتواء الأزمة، إذ تراوحت ردود فعله بين التصعيد والتهديد بإشعال النار في البلاد، وبين مطالبة الرئيس قيس سعيد بالجلوس إلى طاولة حوار وطني لا يتم من خلاله إقصاء أي حزب، وإلى العودة الى الشرعية الدستورية التي خرقها الرئيس سعيد، في ظن الغنوشي، حد وصفه إصدار ذلك المرسوم بالانقلاب عليها.

والآن وقد أعلنت النهضة في بيان لها أصدرته يوم الثلاثاء الماضي عن عزم رئيسها عدم الترشح لعهدة أخرى خلال مؤتمر نوفمبر القادم، فإن السؤال الذي يمكن طرحه هو مَن سينقذ مستقبلاً حركة النهضة من السقوط بعد التصدع؟

يستطيع المُتتبع لما يُنشر أخيراً على موقع حركة النهضة أو على وسائل الإعلام المكتوبة التابعة لها أن يشهد حضوراً بارزاً للشباب الطلابي وغير الطلابي في النقاشات والكتابات الدائرة حول ضرورة إجراء المراجعات المطلوبة، وربما الموجعة والضرورية لاستعادة النهضة "ألقها"، ومحاولة تغيير "الصورة المشوهة لها "التي ترسخت في أذهان غالبية التونسيين..

لا يذهب هؤلاء الشباب كثيراً في تفاصيل هذه المراجعات ولا في تفاصيل ما يشيرون إليه من أخطاء الماضي، ربما حرصاً على عدم النيل من الغنوشي والطعن في رمزيته، ولكنهم يحرصون على تجنب خطاب المظلومية الذي غنم من خلاله قيادييو الحركة وأنصارها الكثير، في الوقت الذي ترزح فيه الدولة التونسية تحت مديونية ثقيلة، ويؤكدون، بما أمكن لهم من مخاتلة، أن حزبهم لا يتحمل المسؤولية كاملة في ما آلت إليه الأوضاع في تونس من فشل وتردٍ خلال عشرية حكمهم أو مشاركتهم في الحكم، وأن هذه المسؤولية هي مسؤولية جماعية تتحملها كل الطبقة السياسية التونسية.

هذا الإقرار بجزء من المسؤولية جديدٌ في خطاب النهضة، والأجدد منه حرصهم على القول إنهم والحزب الحر الدستوري ينهلون من معين فكري واحد وهو فكر الزعيم الوطني عبد العزيز الثعالبي، الذي انقلب عليه الزعيم الحبيب بورقيبة في بداية نضاله السياسي، بل إن أحد هؤلاء الشبان النشيطين في هذا المجال يؤكد أن النهضة وحزب نداء تونس، الذي أوصل المرحوم الباجي القائد السبسي إلى السلطة، يشتركان في نفس المرجعية العربية الإسلامية، مُحيلاً إلى خطابات الرئيس السبسي التي تعج باستشهادات قرآنية، ويخلص هذا الشاب الذي يزدهي بانتماء جده إلى الحزب الحر الدستوري وانتمائه هو ووالده إلى النهضة، إلى أن لا تصادم ولا تناقض بين المرجعية الدستورية والمرجعية النهضوية، وأنه من الضروري إرساء قواعد للحوار بين ممثلي هاتين المرجعيتين.

لا شك أن هذا الحرص على استدعاء الأب المؤسس للحركة الدستورية يعود إلى أن الصراع السياسي يتم حالياً، ودون هوادة، بين ممثلي هاتين المرجعيتين وللدور الذي لعبته السيدة عبير موسي، رئيسة الحزب الحر الدستوري، في زعزعة التموقع السياسي لخصومها النهضويين.

يتوسل شباب النهضة لنشر هذه الدعوة للمراجعة ولاعتماد أسلوب جديد للأداء السياسي لحركتهم، بتكثيف دورات في تقنيات الخطاب السياسي؛ بهدف استقطاب مزيد من الشباب لها، واسترجاع جزء من الجسم الانتخابي الذي فقدوه خلال الانتخابات الماضية، خاصة بعد التأكد أن الحزام السياسي للرئيس قيس سعيد هو أساساً من الشباب، ممن سهر على حملته الانتخابية الرئاسية، وممن قام بحملات مناصرة للاستشارة الوطنية التي أطلقها..

كما يتوسل هؤلاء الشبان، الذي يتمتع العديد منهم بمستوى تعليمي راق، بمزيد الانتشار في الفضاءات الجامعية، مع ترديد أنهم منفتحون على كل الرؤى والتوجهات الفكرية، وأن هدفهم ليس بالضرورة الاستقطاب الأيديولوجي بقدر ما هو الحوار الوطني بين مختلف فئات الشباب التونسي حول مستقبل بلادهم.

ولكن، هل سينجح هؤلاء الشباب في ترميم ما قام به الشيوخ من ضرب لمداميك القلعة التي كانت توفر لهم الأمان من ضربات السياسة؟

لا شك أن ما يحاول أن يقوم به شباب النهضة، على ما يمكن أن يكون فيه من إخلاص لبلادهم، من محاولات تجديد خطاب حركتهم، يتم الآن تحت مظلة شيخهم الذي تتصدر صورته مدخل مقر حزبهم، وبالتالي لا يمكن ألا تكون لهذه المحاولات حدودها التي ترسمها خيارات الرئيس المتخبطة إلى اليوم..

ثم إن هذا الخطاب منكف على ذاته ويقع في خطيئة التمجيد لنضالات آبائهم الرمزيين، وربما البيولوجيين أيضاً، كما يغلب عليه التبرير أكثر مما يواجه بشجاعة الأسباب الحقيقية لرفض الشعب التونسي لحركتهم ولدورهم في تحمل المسؤولية كاملة في ذلك، هذا فضلاً عن أنه لا يقدم رؤى وبدائل اقتصادية واجتماعية لإنهاء معاناة التونسيين تكون مدخلاً لإدارة هذا التغيير الذي يريدون السعي إلى إرسائه في مشاركتهم المطلوبة في إدارة شؤون البلاد.

وأخيراً، يظل نجاحهم أو فشلهم في تحقيق ما يصبون إليه مرتبطاً بصدقهم في العمل في إطار حزب سياسي لا في إطار حركة ذات مرجعية دينية كانت وسيلتهم، بما تحيل إليه من طهورية وتأكيد على صفاء الانتماء لهوية عربية إسلامية، في استقطاب فئات واسعة من المجتمع التونسي، كانت تأمل في القطع مع الفساد السياسي، ومرهونا أيضاً بما سيفضي إليه مؤتمرهم القادم من نتائج انتخاب رئيس جديد للحركة، وما ستحدده هذه الأخيرة من سياسات قد تعيد إليها حضوراً مقبولاً في الحياة السياسية، ولكنه لن يكون، بالتأكيد، قبولاً مرحباً به كثيراً في الحاضنة الشعبية.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com