امتحانٌ للبورقيبية
امتحانٌ للبورقيبيةامتحانٌ للبورقيبية

امتحانٌ للبورقيبية

خيرة الشيباني

لا أثر يُذكر لتعليقات الصحافة المكتوبة أو المسموعة أو المرئية لترشح السيدة عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري الحر، إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة.

غيرةُ رجال يسيطرون على وسائل الميديا، انهماكٌ في اليومي المرهق للمواطن التونسي الذي ينوء تحت جبال مشاكله منذ أكثر من عشر سنوات أم صدٌ من الخصوم السياسيين الذين يرون في المترشحة رمزًا من رموز "العهد البائد" وتقدمُ هي نفسها على أنها سليلة للبورقيبية ومؤتمنة أن يكون لهذه الأخيرة مستقبل في تونس؟

لقد دأبت عمليات استبيان الرأي هنا، على مختلف توجهاتها، على وضع هذه المحامية الشابة، التي نجحت في فرض نفسها على الساحة السياسية، في المرتبة الثانية من حيث حظوظ النجاح سواء في الانتخابات التشريعية أو الرئاسية..

ولكننا لن نقوم هنا بالتكهن بحظوظها في الفوز في انتخابات ما زالت سياقاتها غامضة، ولا بتقييم برامجها والوقوف على مدى جاذبيتها لجمهور التونسيين الذين ملوا السياسة والسياسيين، ولا هَمَّ لهم اليوم، حتى قبل الاجتياح الروسي لأوكرانيا، سوى أن لا تُغلق المخابز ويغيب الخبز من الأسواق، وذلك بسب سوء توزيع الطحين وربما فقدانه تمامًا من المخازن.

سنكتفي هنا بطرح سؤال ألا يكون ترشح السيدة عبير موسي، وبالتالي نجاحها أو فشلها في الرئاسية القادمة امتحانًا لحضور البورقيبية في الثقافة التونسية، وبالتالي في الشارع التونسي وجدانًا وسلوكًا ومِخيالًا جماعيًّا، وتبعًا لذلك، يكون اختبارًا لمدى ترسخ النموذج الحداثي، الذي أرساه زعيم حركة التحرير ومؤسس دولة الاستقلال الرئيس الحبيب بورقيبة في المجتمع التونسي، في اختيارهم أو عدم اختيارهم لقيادية بورقيبية وامرأة رئيسة لجمهوريتهم الثالثة أو الرابعة؟

لكَمْ تم استدعاء السردية البورقيبية منذ السنوات الأولى للثورة، عندما استشعر التونسيون خطر حركة النهضة على أنموذج المجتمع التونسي الحداثي الذي عمل الزعيم بورقيبة على ترسيخه عبر تحديث مؤسسات التعليم وإصدار مجلة الأحوال الشخصية وعبر سياسته الاتصالية المباشرة مع الشعب التونسي، الذي كان يتوجه إليه بخطابات ولقاءات مباشرة ليستنهض همته للعمل ويفكك العقلية القبلية الراسخة في العديد من الجهات وحتى ليدعوه لتحسين هندامه.

وهكذا، وعلى سبيل المثال، تصدت النساء، حارسات الحداثة في تونس، إلى جانب القوى المدنية والسياسية الديمقراطية للتنصيص على مبدأ التكامل بين الرجل والمرأة في ديباجة مشروع دستور 2014 الذي اقترحه ممثلو النهضة، ونجحت الوقفات الاحتجاجية طيلة أيام رمضان 2103 في إسقاط هذا الاقتراح، واستبداله بمبدأ المناصفة الذي يعني أساسًا تكافؤ الفرص في النفاذ إلى الحقوق وإلى فرص العمل والنفاذ إلى المؤسسات وإلى دوائر القرار وغيرها.

وقد تمثلت اللحظة القصوى في المصالحة مع البورقيبية في انتخاب المرحوم الباجي القائد السبسي رئيسًا للجمهورية التونسية بشبه إجماع لليساريين والدستوريين والمستقلين الذين رأوا فيه منقذًا للنموذج الحداثي من هيمنة الإسلام السياسي، وولادة جديدة للمشروع البورقيبي يتدارك ما شابَ هذا الأخير من هِنات وثغرات تتعلّق أساسًا بالحقوق الفردية والجماعية.
لقد كان رهان بورقيبة أن يجعل من "شعب من غبار" مجتمعًا آخذًا بأسباب التقدم، متحررًا من قيود التقليد، منفتحًا على أنوار الفكر والمعرفة، ولكن بدا، في محطات سياسية واجتماعية عدة، أن سياسات التحديث التي انتهجها بناة دولة الاستقلال لم تنجح في إحداث التغيير المطلوب، إذ بدت البنى الاجتماعية والثقافية التقليدية فاعلة في العمق، عصية على التواؤم مع قيم الحداثة ومتطلباتها، كما بدا أن المشروع البورقيبي لم يكن بذلك الرسوخ في النسيج الاجتماعي ولا بحجم ادعاء التونسيين أنهم "أكثر حداثة" من مجتمعات عربية أخرى.

ومن ذلك الرفض الشديد لقطاعات واسعة من المجتمع لِما أفضى إليه تقرير الحريات الفردية والجماعية، الذي أُعد في عهد الرئيس الباجي قائد السبسي، من توصية خاصة بالمساواة في الإرث بين الرجال والنساء.

ربما كان للنخب التي راهن عليها بورقيبة في المساعدة في إحداث التغيير الاجتماعي والثقافي المطلوب، بل والتي ناشدها، كما يؤكد المفكر هشام جعيط، بشكل مباشر بأن يكون لها دور في دخول تونس حقبة تاريخية وحضارية جديدة، مسؤولية أيضًا في عدم حسم هذا الصراع بين بنى التقليد ومشاريع التحديث، إذ ظلت طوال عقود منغلقة على نفسها، زاهدة إن لم نقل عاجزة، عن نقل خبراتها النظرية إلى ساحات الفعل والتغيير.

ربما كان أيضًا لرياح الإسلام السياسي العاصفة والذي استقوى بالمال كما استقوى بالقراءة المتخلفة للدين لاستقطاب فئات هشة من المجتمع التونسي بسبب ظروفها الاقتصادية والاجتماعية وبسبب تراجع السياسات التعليمية والثقافية، أثرها الكبير في هذا الصراع الشرس، الذي انفجر بعد الثورة، بين القوى التقليدية وقوى التقليد، والذي لا يمكن أن نتحدث فيه عن انتصار باهر للحداثيين ما دام التونسيون يصوتون، وبقطاع واسع منهم "لمَن يخاف ربي" وللطهوريين الذين لم ينجحوا في تدبير الشأن العام.

لقد أوصى الزعيم بورقيبة أن يُكتب على ضريحه "المجاهد الأكبر باني تونس الحديثة، ومحرر المرأة"، وكان له ذلك.
الامتحان الصعب أن تنتصر مرة أخرى، خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة، السردية البورقيبية على السرديات الأخرى، من خلال الانتصار لامرأة أوّلًا، ولقيادية دستورية بورقيبية ثانيًا.. وأن تنتصر قوى التغيير والتحديث على قوى الممانعة للذهاب في تجاه حركة التاريخ.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com