مشهد اكتمال هلال الشيعة السياسية
مشهد اكتمال هلال الشيعة السياسيةمشهد اكتمال هلال الشيعة السياسية

مشهد اكتمال هلال الشيعة السياسية

مصطفى أبو لبدة

يعرف زعيم السنّة السياسية في لبنان، سعد الحريري، جيّداً المثل الذي يقوله أهل مدينة صيدا (حيث وُلد أبوه) بلهجتهم الخاصة، ويقصدون به "إذا كان لا بدّ لكَ من توجيع أحد، فليكن ذلك بقسوةٍ تجعلُكَ لا تخشى انتقامه".

ولذلك عندما أراد الحريري إيذاء الذين ناهضوه أو خذلوه أو وشوا به، اكتفى بالانسحاب من اللعبة إيماناً واحتسابا بأنها في ذلك ستخرب؛ فخروج السُنّة السياسية الآن، ولو مؤقتاً، من التركيبة التي بُني عليها "لبنان الكبير" قبل مئة سنة، لن يهدم المعبد المحلي على رأس قاطنيه فقط.. تداعياته الإقليمية جاءت سريعة ومتزامنة.

ما فعله الحريري بسحب قيادة السُنّة السياسية من اللعبة أوجع بقية اللاعبين، لأنه وضع على الطاولة قضية "الهوية الوطنية للبنان" كما تأسست عام 1920 وبلورها الاستقلال عام 1943، وظلت طوال كل تلك العقود تستجرُّ حروباً أهلية تتوالد.

واحدٌ من أكثر الباحثين الأكاديميين دراية وموضوعية، أستاذ التاريخ اللبناني شارل الحايك، كان قد لخّص أزمة الهوية الوطنية اللبنانية بأنها سردياتٌ إرسالية أقنعت كثيراً من اللبنانيين بأنهم ضحايا الدين والمذاهب، وخلقت انقسامات ترسخت بحروب موسمية مدمرة.

في تلك السرديات، التي وصفها بالكارثية، أن المسيحيين وكذلك الشيعة والدروز لجأوا إلى الجبال هرباٌ من اضطهاد السنّة لهم في المنطقة، وأن ما حصل في إعلان "لبنان الكبير" عام 1920، زاد في توسيع الشُقّة النفسية، فقد جرى إلحاق شيعة جبل عامل - وهم الذين كان العثمانيون قد اضطهدوهم بذريعة ولائهم للصفويين - وإتباعهم إلى جبل لبنان الذي يتقاسمه الموارنة والدروز.

وبموجب هذه التبعية، كما تقول المعلومات التاريخية التي لا يعرفها الكثيرون من الأجيال الجديدة، ظل الشيعة مهمشين في مستوى تمثيلهم السياسي إلى حين مجيء الإمام موسى الصدر إلى لبنان في أوائل سبعينيات القرن الماضي ليطلق الشيعة السياسية التي ترفع شعارات المظلومية.

وتصادف ذلك زمنياً مع الحرب الأهلية التي استمرت حتى 1990 وانتهت باتفاق الطائف الذي يشكل الآن خلفية المشهد السياسي الذي انسحب منه الحريري كزعيم للسُنّة السياسية.

اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية، وسَّع في صلاحيات ولاية السنة على رئاسة الحكومة، كما وسّع في ولاية الشيعة على رئاسة مجلس النواب، على حساب منصب رئيس الجمهورية الذي هو حصة الموارنة في التركيبة.

وبذلك، نشأ إحساسٌ ماروني بالغُبن الذي يستدعي التصحيح، تلاقى مع غبنٍ تستشعره قيادة الشيعة السياسية التي ترى أنها أكبر عدداً وعدّة من السُنّة.

وفي ظل سطوة القوة لدى تحالف الشيعة السياسية مع المارونية السياسية الممثلة بفريق رئيس الجمهورية، كان حظّ سعد الحريري أنه شخصياً دفع الثمن..

غضبُ الشارع من الفقر والفساد أسقط حكومته، ولم يترك له تحالف التيار الوطني مع حزب الله ميانة تشكيل الحكومة، ثم إن بعض من كان يراهم حلفاءً، خذلوه وتناهى إليه أنهم وشوا به.

تأخّر الحريري بالرد عليهم. وحين قرر، جاء رده أقوى وأكثر توجيعاً مما كانوا يتصورون.. سحبَ السُنَة السياسية من شراكة الميثاق الوطني واضعاً على الطاولة من جديد سرديّة الهوية اللبنانية مٍنْ أساسها.. استودع الله لبنان وجلس في البيت ليشهد كيف سينهار ما بقي من جدران البلد التي تداعت بالانهيار الاقتصادي وبقوة انفجار ميناء بيروت.

قبل يوم من خطاب الحريري الوداعي، كان وزير خارجية الكويت قد سلّم الرئيس اللبناني رسالة وصفها بأنها "كويتية خليجية عربية ودولية" تتضامن مع الشعب اللبناني وتتضمن إجراءات وأفكاراً لبناء الثقة مجدداً مع لبنان، كلها مستنبطة ومؤسسة على قرارات الشرعية الدولية وجامعة الدول العربية.

وتطلُبُ الرسالة من المسؤولين في لبنان ألا يكون بلدهم منصة لأي عدوان لفظي أو فعلي، وتنتظر استلام الجواب قبل نهاية الشهر الحالي.

الرسالة أعادت للذاكرة ما كان بطريرك الموارنة بشارة بطرس الراعي، دعا فيه إلى إعلان حياد لبنان كمخرجٍ من حالة الارتهان التي يعيشها البلد لصالح إيران.

قبل انسحاب السُنّة السياسية في لبنان مِن اللعبة الداخلية وتسليم الملعب، قسراً، لوكلاء إيران وحلفائهم، كان شيء مماثل حصل وتراكم في العراق وقبله في سورية. وبذلك، أصبح مشهد بلاد الشام، مِنْ عَلٍ، وكأنه ممرٌ سالكٌ لأيّ عربات، عسكرية أو مدنية، تخرج برّاً من طهران إلى البحر المتوسط، أو كأنه الساحة الوسيعة المفتوحة للطائرات الإيرانية المُسيّرة تخرج منها لتقصف أين تشاء في المنطقة.

هو الحال الذي كان وُصف قبل عدة سنوات بأنه مشروع الهلال الشيعي، وها هو يكتمل الآن.

كأنّه (الهلال الشيعي) نفسه ورقة القوة التي كان الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي يحملها في جيبه عندما زار موسكو قبل أيام، وسط تقديرات تتحدث عن نظام إقليمي جديد للشرق الأوسط تتقاسم السيطرة عليه طهران وموسكو وبكين، وتخلف فيه الولايات المتحدة التي أعلنت أنها تريد الانسحاب من هذا الإقليم، لكنها إجرائياً لا تعرف متى وكيف.

طبيعيٌ وفطريٌ أن يكون مثل هذا المشهد المتسلسل مقلقاً للدول العربية، وفي مقدمتها الخليجية القريبة من إيران، ويستنفرها لتفعل ما هو أكثر من مجرد استنهاض قوة الشرعية في مواثيق الأمم المتحدة والجامعة العربية.

تركيا من طرفها يبدو أنها أيضاً كانت تستشعر الخطر في التنمّر الإيراني وهو يتوسع في المنطقة ويعيد تذكيرها بحروب الصفويين والعثمانيين.

وربما من هذا الباب الإضافي وسّعتْ أنقرة في مبادراتها للمصالحة مع الدول العربية ولإعادة توثيق علاقاتها مع إسرائيل، في نطاق نظام إقليمي جديد.

وكان تزامناً لافتاً، حتى وإن جاء بالمصادفة، أن هذا الاستنفار الإقليمي في مواجهة المد الإيراني جاءه مددٌ من تل أبيب.

يوم 24 الجاري، أصدر معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS) تقريره السنوي لعام 2022، وفيه يحذر بقوة من أن اسرائيل لا تستطيع، بمفردها، التعامل مع التهديد الأخطر القادم من إيران، بسبب سعي طهران لتحقيق قدرة نووية عسكرية.

رئيس إسرائيل إسحاق هرتسوغ، وأثناء استقباله لوفد المعهد وتسلَمه تقريرهم، كان جوابه أنه "في مواجهة التهديد الإيراني ووكلائه الخطرين في المنطقة، يجب أن نتعاون مع أصدقائنا.. ليس فقط من أجلنا وإنما أيضاً من أجل جميع سكان الشرق الأوسط".

حاسدو أو كارهو سعد الحريري كانوا دائماً يصفونه بأنه غرّ.. ولذلك تساءلوا بعد خطابه الوداعي المتماسك، ومعهم أيضاً مريدوه، إن كان الرجل يعرف حقاً الحجم الذي سيترتب على قراره بسحب السُنّة السياسية من اللعبة اللبنانية، وماذا سيتداعى في المنطقة من إجراءات وترتيبات حمائية لا بدّ ستتوالى، بعد أن دخل لبنان كلياً في هلال الشيعة السياسية ومرجعيته قُم.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com