ضفاف الضمائر وأحذية اللاجئين
ضفاف الضمائر وأحذية اللاجئينضفاف الضمائر وأحذية اللاجئين

ضفاف الضمائر وأحذية اللاجئين

رمزي الغزوي

يروي الكاتبُ الروسي الشّهير أنطوان تشيخوف، في واحدة من قصصه، حادثةَ حارس ليلي، فسّر سبب قصر النهار وطول الليل في الأيام الزمهريرية، كالتي تخيّم الآن على تركيا وبلدان الشام.

يقول الحارس المعتدّ بنباهته إن النهار - ككلّ الأشياء - يتقلّص مُنكمشاً من شدة البرودة، فيما يتمدّد الليل ويطووووووول جراء دفء الشموع، ونور القناديل.

تذكرت القصة، بعد عبارات التعاطف التي نسّمت على ضفاف ضمير عالمنا المتدثر بمعطف دب خلال اجتياح المنطقة موجة البرد القطبية. فيا للبهجة، ما زلنا قادرين على أن نتحسر بدفء، على أحوال وأوحال اللاجئين السوريين، المنكمشين امتداداً وانسداحاً في صقيع مخيمات شتاتهم. هذا مفيد وواعد.

ولربما لم يبق شيء من الإشفاق إلا أن نتساءل بسذاجة، إن كان صحيحاً، أن ليل المخيمات كنهارها، باردٌ يتطاولُ ضجراً وألماً. لكنّ المسمار أيها العالم الأخرق، لا يخرق إلا قدم من يقف عليه.

كلُّ شيء يبقى مستساغاً، ما لم تضع نفسك مكان أولئك المشردين، وعلى طريقة المثل الإنجليزي الصريح "put yourself in my shoes ". فمن من عالمنا يحتملُ أن يضع قدمه، حتى لا نقول نفسه، في حذاء لاجئ، ويعيش حياته لليلة واحدة فقط.

الحروب لا تنتهي بنهايتها. قد تخبو ويسكنُ هدير مدافعها، ويهبط غبار معاركها، وينبت الأخضر والأصفر في خنادقها، ولكن نيرانها تظل أجّاجة مستعرة في أرواح من أجبرتهم على ترك بيوتهم؛ ليصبحوا ويمسوا لاجئين تائهين.

فها قد بردت الحرب، كما يُظنُّ، وما زال سؤال المأساة مفتوحاً كجرح مملّح: لماذا لم يعد اللاجئون إلى بيوتهم وأعشاشهم وحواكيرهم؟ لماذا لا يوفرون على أنفسهم عذاباً مقيماً، وهذه الطريق سالكة للعودة الطوعية، كما يُدّعى؟

وهنا، سيقفز واحد من الذين اعتادوا رشَّ الموت بنثار السكر؛ لتجميله وتحليته، بأن الحياة قد أخذتهم بتفاصيلها؛ فاعتادوها واعتادتهم.

الواقع غير هذا تماماً. الواقع الواخز المخزي، أن عالمنا - كما هي عادته - يدير ظهره وقلبه وأنظاره وأفكاره عن أوجع نتائج الحروب: اللجوء وويلاته. العالم ينسى، أو بالأحرى يتناسى اللاجئين؛ كي يبقى له أن يتحسّر على ما أصابهم في بعض المناسبات والمنابر؛ ولكي يمنح مبرراً للمسؤولين، أن يعبروا براحتهم عن بالغ قلقهم حيال القضية.

واقع الأمر ومرّ مراره، أن عالمنا قفز عن هؤلاء بعنجهية وتجاوزهم، ثم انخرط في تثبيت واقع حالهم؛ كي تسقط أوطانهم بالتقادم من حساباتهم.

لا أشكّ للحظة في أشواق اللاجئين إلى بيوتهم أو بقاياها، ولا بحنينهم إلى أرواحهم المتروكة فيها، لكنهم يحجمون عن العودة، حتى ولو تسنّت لهم؛ لأنهم يعرفون نظامهم الحاكم، ومدى تسامحه، ومعنى مغفرته وعفوه. هم أخبر منّا به، وذاكرتهم تحتشد بصور عن خردله وبراميله الهاطلة.

ففي أواخر العام المنصرم كشفت الحكومة الأردنية عن عودة 52 ألف لاجئ سوري إلى بلادهم منذ فتح حدود جابر أمام العودة الطوعية في 15 أوكتوبر 2018، من أصل ما يزيد عن مليون ونصف مليون لاجئ.

بعد ذلك ينبرى وزير سوري يعشش على متن كوكب بعيد ليقول إن ثمة من يعيقون عودة مواطنيه.

رغم هذا الانفصام وموجات البرد، فقد دفأني الحكم الذي أصدره القضاء الألماني على ضابط سابق في المخابرات السورية بعد إدانته بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية.

الحكم كأنه يقول إن جمر المأساة ما زال ملتاعاً وهّاجاً يتحمص تحت الرماد.

هذا الحكم يهمز بلادة العالم وثخين جلده، ويذكّره بفظائع نظام ارتاح بقتل ولجوء الملايين عن سوريته المفيدة وركامها المقيم.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com