يهودا ليطاني
يهودا ليطانييهودا ليطاني

يهودا ليطاني

نظير مجلي

تصوروا أن يعلن فريق من العلماء الأمريكيين أو الأوروبيين غدا أن هناك كويكبا غريبا في الفضاء بحجم جبل إيفرست، يتدحرج ككتلة من نار، نحو الكرة الأرضية، وأنه لا يعرف أين سيقع بالضبط. فإذا وقع في أحد البحور أو المحيطات، سيتسبب في تسونامي رهيب يقضي على بلدات ساحلية كثيرة ويقتل بضعة ملايين من البشر، وإذا سقط على اليابسة فإنه سيؤدي إلى تدمير نصف الكرة الأرضية ويبيد معظم سكانها.

هذا سؤال ليس من عندي، بل من الفيلم السينمائي العبقري "لا تنظر للأعلى"، للمخرج الأمريكي آدم ماكيي، جاء ليعلمنا كم نحن البشر نسمح بالاستهتار في أحوالنا وبالطيش إزاء مستقبلنا وبالسطحية في حياتنا. فهو فيلم خيالي، صدر في السنة الماضية، لينتقد القصور والاستهتار اللذين يبديهما السياسيون عموما والرئيس دونالد ترمب، وأنصاره من الإعلاميين، بأزمة المناخ. وهو يحكي عن ثلاثة علماء اكتشفوا قدوم ذلك الجسم الغريب ووصلوا البيت الأبيض ليبلغوا "الرئيسة الأمريكية" بالأمر حتى تتخذ القرارات اللازمة. وأوضحوا لها أن المذنب سيسقط على الكرة الأرضية بعد خمسة شهور وأن عليها أن تأمر بحرف الجسم عن مساره، على أمل أن يسقط في كوكب آخر، أو إن سقط على الأرض فيسقط في المحيط على الأقل، ويتم إعداد الدول المعنية بالأمر.

والفيلم طويل (138 دقيقة)، ولكنه يحبس أنفاسك، وهو يظهر كيف يتصرف الناس، شعبا وقيادة، المسؤولين الحكوميين والصحفيين والمذيعين والعلماء المنافسين.

والحقيقة أنه يصلح لمجابهة سياسة الاستهتار بالواقع، على أكثر من صعيد. لذلك يذكرني بصديق يهودي مميز توفي هذا الأسبوع، يدعى يهودا ليطاني. أعرفه من بعيد، كصحفي كان يعمل في صحيفة "هآرتس" (1972 - 1985)، مراسلا في المناطق الفلسطينية المحتلة. ومن تقاريره بدأ اليهود يتعرفون على الجانب المظلم من حياتهم: الاحتلال. كان همه أن يعرف المجتمع الإسرائيلي على كذبة "الاحتلال المستنير".

ويروي لهم ما يفعله أبناؤهم الجنود والضباط للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال. وقد عرفته لاحقا بشكل شخصي، عندما زارني في صحيفة الاتحاد في حيفا للتعرف على رأي المثقفين العرب في إسرائيل (فلسطينيي 48)، من اتفاقيات أوسلو، ثم تحولت العلاقة إلى صداقة ثم زمالة، عندما أصبح منتجا ومحررا مسؤولا لبرنامج عربي في القناة الثانية للتلفزيون، وكان لي شرف إعداده وتقديمه طيلة سبع سنوات، بشكل حر ومستقل.

لقد تعرفت خلال السنين الطويلة من العمل الصحفي والبحثي على كثير من اليهود، الذين عارضوا السياسة الإسرائيلية ورفضوا الاحتلال وحاولوا تعريف شعبهم على حقيقة أوضاع الشعب الفلسطيني ومعاناتهم تحت الاحتلال. ويهودا ليطاني كان متميزا. لقد حرص على أن يكون للفلسطينيين صوت مجلجل أمام الإسرائيليين، يلفت أنظارهم ويفتح عيونهم ويؤثر فيهم ويحدث بعض التغيير في موقفهم. اختلفنا على أشياء كثيرة خلال عملنا المشترك، لكنه احترم الرأي الآخر. وقبل، بل تبنى الفكرة بأن يتعرف اليهود ليس فقط على المشاكل، بل أيضا على إبداعات الشعب الفلسطيني والأمة العربية. فالإعلام الإسرائيلي دأب في كثير من الأحيان، على اتخاذ نظرة استعلائية تجاه العرب، والترويج لإخفاقاتهم وفشلهم ومظاهر التخلف والقنوط والسقوط. وكان من الصعب أن تجد تقريرا يمتدحهم أو تحليلا ينصفهم، لكن التقارير التي حملت توقيعه، تحدثت أيضا عن الإشراقات والنجاحات، وهي ليست قليلة.

هو نفسه كان مؤمنا بأن واجبه المهني كصحفي يحتم عليه أن يقول الحقيقة. لا مانع في النشر عن الإخفاقات والأخطاء والفواحش عن الطرف الآخر، ولكن لا يجوز إخفاء الأمور الإيجابية. فعندما تكتب أو تنشر عن الجانب المظلم لعدوك، وتغفل الجوانب المضيئة، لا تكون مشوها للحقيقة فحسب، وخائنا لمهنتك فقط، بل تكون مخادعا لشعبك أيضا. ولهذا، أمضى أياما طويلة في كل أسبوع، في القدس والخليل، يلتقي الفلسطينيين قادة ومواطنين وينقل صوتهم للمجتمع الإسرائيلي. يلتقي المبدعين ويطلع جمهوره على مواقفهم وآرائهم. وفي بعض الأحيان كان حشريا أكثر فيلتقي مسؤولين وينبههم إلى أخطائهم وتبعاتها.
يهودا ليطاني، مثل غيره من أنصار السلام اليهود، كان من المؤثرين الإيجابيين في علاقات اليهود والعرب، ولو بشكل محدود.

ولكن، في أحيان أخرى، كنت أخاله مثل أولئك العلماء في الفيلم الأمريكي الخيالي؛ يصرخون في واد، يصطدمون بسياسيين يحسبون كل شيء وفقا لحسابات الربح والخسارة على صعيد شخصي وسياسي وليس على صعيد وطني، ويتعرضون لهجمة إعلامية غير مهنية مبنية على خدمة السيد وليس الشعب. ومع أن يهودا كان حزينا جدا إزاء هذا الوضع، إلا أنه لم يكف عن المحاولة، ولم يفقد الأمل في جيل قادم يأخذ بزمام الأمور إلى مكان مختلف وأفضل.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com