عرّفوا الوطن ونسوا المواطَنة
عرّفوا الوطن ونسوا المواطَنةعرّفوا الوطن ونسوا المواطَنة

عرّفوا الوطن ونسوا المواطَنة

مصطفى أبو لبدة

لم تُغادرني، رغم انقضاء أسبوعين عليها، صورة ذاك الفنان المثقف اللبناني، الجامح في سن الخامسة والستين، وهو يُعلي صوته بالغضب المرير، على شاشة إحدى القنوات التلفزيونية المحلية، بالقول إنه تخلى طوعاً عن هوّيته دون أن يرفّ له جفن، وإنه مغادر ولن يعود.

لم يكن بحاجة لتبرير قراره المتعلق بتغيير الهويّه والتخلي عن المواطَنة، وهو يقول إن أكثر من نصف الشعب اللبناني مثله يتمنون الهجرة. فقد أوردت استقصاءات متخصصة أن نسبة الذين يحلمون بالهجرة أو يعملون لها تقارب 64%، وهم نفسهم الذين كان الرئيس اللبناني سئل عنهم، فأجاب بما يزيد قليلا عن: " مع السلامة".

ذاتُها التقارير الإحصائية التي تجتهد بقراءة الأرقام الختامية للعام المنتهي، أعطت مؤخرا للحالمين بالهجرة ومنتظريها في سوريا والعراق، أرقاما فاجعة – إن صحّت - وأقل منها قليلا في الأردن، دون أن تتطرق لحجم هذه الظاهرة أو المشكلة في فلسطين.

هي الصورة الرقمية الأحدث لإقليم بلاد الشام، شاملا العراق، وقد وصل بها الاختلال المتراكم حدّ مراجعة الهوية والمواطنة باعتبارهما أول وظائف الدولة وآخر مفاصلها.

وإلا بماذا يمكن تسمية مثل هذا المشهد الافتراضي لخريطة إقليم بلاد الشام وهي تأخذ شكل طوفان من المهاجرين، ومن خلفهم طوابير من منتظري دورهم ليغادروا إما بزوارق الموت المتجهة لقبرص، أو بالشاحنات وهي تعبر برّاً إلى تركيا ومنها إلى أوروبا ليقضي أطفالهم تحث الثلج على نقطة حدود بيلا روسيا.؟! وعندما يُخيرون بالعودة الى بلادهم يرفضون لأنهم لم يغادروا أصلا إلا بعد أن يئسوا وحسموا موضوعة الجدل في قضايا الهوية والمواطنة والانتماء.

ليست بلاد الشام هي الجغرافية العربية الوحيدة التي تنضحُ أبناءَها مهاجرينَ بلا عودة. فسواحل الشمال الأفريقي تتشارك معها في طقوس الهجرة والموت غرقا. الفرق هو أن الهجرة الراهنة في بلاد الشام تأخذ شكل التجريف الوحشي الذي تعمل محركاته بوقود حرائق الثقة بالماضي، وبطاقة اليأس من المستقبل.

مَنْ يهاجر مِنْ رعايا دول بلاد الشام لا يمتلك رفاهية تفسير لماذا يهرب من الموت. ومَن يبقى يكونون في الغالب مؤهلين بالممارسة لجَدَلٍ يديم الحال المائل ويشتري الوقت.

هو جدل رائج، الآن، في هذا الإقليم حول قضايا الهويّة والمواطنة، يبدأ بشعارات ثقيلة تطلب المراجعة والإصلاح، وتلوح بفتح الدفاتر المغلقة المسكوت عنها، ثم ينتهي بتكريس الراهن وتلقيحه بمطاعيم الوقاية من الأسوأ القادم.

شيء من هذا القبيل ينطق به جدل الهويَة الحاصل الآن في العراق. انطلق من الرغبة بفك التبعية لإيران كما استجدت بعد حرب 2003، وجرى خوض الانتخابات البرلمانية على هذا الهدف. حتى إذا انعقدت الجلسة الافتتاحية للنواب التأمت تحت ترهيب سلاح الميليشيات التابعة لطهران.

ومثله الحال اللبناني في الجدل الصاخب حول الهوية والمواطنة باعتبارها قضايا محكومة لترهيب سلاح حزب الله. يطلب رئيس الجمهورية عقد طاولة حوار وطني على قضايا كبرى بعضها يصل حد الترويج للفيدرالية الإدارية والمالية، لتنتهي الدعوة بغياب نصف اللاعبين واختصار الإصلاح بتوليفات خاصة بالانتخابات البرلمانية.

في الأردن تسلّح جدل "الهوية والمواطنة" بطاقة صوتية عالية استهلكت الناس عدة أسابيع، شارك فيها أربعة من رؤساء الوزراء المتقاعدين، تناوبوا على التحذير من غيلان العتمة، فأضافوا للقلق الملتبس استنفارا غير مفهوم، في بلدٍ هو الأكثر استقراراً في محيطه بإقليم بلاد الشام.

صخب الجدل في الأردن بموضوع استحقاق إعادة تعريف الهوية الوطنية والمواطنة، تيسّر له مَنْ وسّعه كثيرا بتجديد الحديث عن "الموجبات القومية والاستراتيجية" لأن يكون الأردن جزءاً لا يتجزأ من مجلس التعاون الخليجي، فكان أن توقف الجدل كله عند هذا الحد.

قبل مئة سنة لم تكن اللغة العربية تتضمن تعريفاً قاموسياً لكلمة الوطن، وما يمكن اشتقاقه منها. كان الوطن يعني تحديدا مكان المبيت والإقامة. لكن علّامة مصرياً فذاً في الاجتماع السياسي، هو د. جمال حمدان، استطاع أن ينْحت توصيفاً للوطن بأنه علاقةٌ عبقريةٌ بين الجغرافيا والتاريخ تُفرز حالة وجدانية من الانتماء الذي يشيع الرضا ويستنفر الحماية.

كان التعريف الذي ابتدعه الدكتور حمدان، عام 1967، لكلمة الوطن، أنيساً إلى الحدّ الذي اعتمده أهل بلاد الشام، أنشدوا له وأقاموا عليه، لكنهم نسوا، كما يبدو، أن يُعرّفوا المواطَنَة والهويّة الوطنية.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com