صلاة البحر
صلاة البحرصلاة البحر

صلاة البحر

إبراهيم حاج عبدي

تنهمك وسائل الإعلام والفضائيات، في نهاية كل عام، بنشر الحصيلة السنوية في مختلف الحقول والمجالات من الموضة إلى السينما، ومن شخصيات العام إلى الكوارث الطبيعية، ومن الاكتشافات العلمية إلى الإنجازات الرئاسية.

غير أن ثمة حصيلة لن يلتفت إليها أحد، ألا وهي عدد غرقى المهاجرين في البحر الأبيض المتوسط، الذين غامروا بأرواحهم للوصول إلى البر الأوروبي، لكن أمواج البحر لم تكن رحيمة معهم، بعد أن لفظتهم بلدانهم، لتنتهي حكايتهم في أعماق البحر، منسية إلى الأبد.

أكثر من 1500 مهاجر غير شرعي، قضوا غرقا في البحر الأبيض المتوسط خلال العام 2021، بحسب حصيلة أوردتها المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، وقد فر هؤلاء من بلاد تعصف بها النزاعات والحروب، وتشمل جغرافية واسعة تمتد من أواسط آسيا وأفغانستان وباكستان مرورا بالشرق الأوسط وصولا إلى أفريقيا.

ورغم ما يقال عن "جلال الموت"، غير أن هؤلاء قضوا دون أن نعلم عنهم أي شيء، فقد تحولوا إلى مجرد أرقام في دفاتر الحصيلة السنوية. لم نرَ صورا لهم، ولم نعرف لحظات الهلع والخوف التي عاشوها، قبل غرق قواربهم المتهالكة، ولن تسجل أسماؤهم يوما في سجلات أي بلاد، ولم تقم على أرواحهم أي صلاة سوى "صلاة البحر".

غامر هؤلاء بأرواحهم ومخروا عباب البحر، في رحلة الموت المحتم، وإذ وقعت الكارثة، فإنها بدأت وانتهت بعيدا عن عدسات الفضائيات المنشغلة بقضايا وملفات أخرى، فلا صوت للغرقى الذين غدرت بهم أوطانهم، وما جرى ويجري في أعالي البحار من مآسٍ لن تصلها العدسات، بل سيمضي كل غريق وحيدا إلى الموت، حاملا في قلبه آمالا وأحلاما غرقت معه.

لن نعرف ما الذي جال في خواطر المهاجرين قبل غرقهم من ذكريات حول أطفالهم وصداقاتهم وأشواقهم، وهم يصارعون شبح الموت الأزرق في بحر يودع الآمال في قاعه الشاسع، وينتظر المزيد، وكأن نداء البحر هو بمثابة سحر خفي يجذب الفارين من النزاعات والباحثين عن حياة أفضل إلى محطتهم الأخيرة.

والمؤلم في قضية الهجرة غير الشرعية، هو أن المهاجرين يعلمون أن طريق البحر محفوف بمخاطر شتى، وفرص النجاة تكاد تكون معدومة، ومع ذلك لا يترددون في خوض "التجربة القاتلة"، وكأنهم يقرون بذلك بأن الموت أرحم من البقاء في بلاد غارقة في الفوضى والفقر والقمع والنزاعات، ليكون البحر، والحال كذلك، هو الخيار الوحيد المتاح وسط الإحباط واليأس وفقدان الأمل، كما يعبر الروائي المغربي الطاهر بن جلون في روايته "أن ترحل""، على لسان "الحراقة المهاجرون": فلنرحل إذًا، لنمخر عباب البحار حتى انطفاء أضأل قبس من نور تنطوي عليه روح كائن.. سنتبع هذا النور الأخير، مهما بَهُتَ وخبا، ومهما كان شحيحًا، فلعل منه ينبلج جمال العالم".

ولئن حظيت قضية الهجرة ببعض الاهتمام الدولي، فإن ذلك يقتصر على الدول المستقبلة للمهاجرين، لا الدول المصدرة لهم، وما يناقش في تلك اللقاءات هو، تحديدا، كيفية التصدي بحزم للهجرة، إذ غالبا ما يطغى على تلك الاجتماعات البعد السياسي، دون أي مراعاة لهموم المهاجرين والأسباب التي دفعتهم إلى تحمل هذه المشقات، وهو ما تجلى بوضوح خلال أزمة المهاجرين الأخيرة في بيلاروسيا على حدود بولندا، إذ كان للسياسة الصوت الأعلى على حساب معاناة المهاجرين الذين اضطروا للعودة إلى بلدانهم رغم ما عانوه من مصاعب ومخاطر، ناهيك عن ملف الهجرة الشائك بين تركيا والاتحاد الأوروبي والذي يأخذ أيضا بعدا سياسيا وتبرم بشأنه صفقات بالمليارات.

ولعل الصيحة الوحيدة المتعففة من البعد السياسي جاءت مطلع هذا الشهر من البابا فرنسيس الذي قال محذرا، إن البحر الأبيض المتوسط "أصبح مقبرة باردة دون حجارة تذكارية على القبور. هذا الحوض الكبير من المياه، مهد العديد من الحضارات، يبدو الآن مرآة للموت.. من فضلكم، لنوقف غرق الحضارة".

لكن الأرجح أن صيحة البابا "الإنسانية" لن تتجاوز جدران الفاتيكان، وفي نهاية السنة المقبلة، ستصدر حصيلة جديدة عن غرقى المتوسط الذي تحول إلى قبر واسع للمهاجرين، يراكم أرقاما غارقة، ترثي الضمير الإنساني.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com